Hoppa till huvudinnehåll

لوحات شهيرة من معرض الهم الفلسطيني

كاتب وناشط ثقافي من مواليد غزة ويقييم فيها، درس اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة الأقصى في غزة، يكتب في عدد من المواقع الالكترونية المهتمة بالشأن الثقافي.

لقد وقعت الأحداث التالي ذكرها في الفترة ما بين الحادي عشر من مايو من العام 2021، وحتى العاشر من نوفمبر من العام ذاته، والتي تمثل، من خلال هذا التتبع السردي، أهم وأبرز لوحات الألم من المعرض الفلسطيني بالنسبة للغزي الراغب في مغادرة قطاع غزة، على اختلاف الأسباب. وحيثُ لا يوجد استثناءات، فإنّ هذا المقال يعبرُ عن واقع أكثر من 40% من سكّان قطاع غزة، وهم الذكور الذين تتراوحُ أعمارهم ما بين 18 إلى 40 عامًا.

Credits إيهاب الغرباوي 26 maj 2023

اللوحة الأولى: التأشيرة.

مع نهاية مايو من العام 2021، كان عدوان العام 2021 قد انتهى بالفعل، مع حلول ال21 من شهر مايو من العام ذاته، لكن الفكرة كانت قد ترسخت في ذهني بالفعل منذ اليوم الرابع للعدوان، أي منذ تاريخ الـ15 من مايو من العام 2021. لكن، وبما أنني لم أملك فكرة آنذاك عمّا إذا كنتُ سأخرج حيًا من هذه النسخة العنيفة والمكررة من الحروب على قطاع غزة، فقد كان الحصول على تأشيرة لمغادرة القطاع يتطلبُ ما هو أكثر من الأوراق اللازمة للحصول على التأشيرة لزيارة تركيا-اسطنبول، حيثُ يقيم والديّ، فقد كان علىّ بدايةً أن أبقى على قيد الحياة، أنا، وزوجتي، وابنتي ذات السبعة أشهرٍ آنذاك، إذ تشيرُ القوانين لعدم امكانية اصدار تأشيرة لشخص ميت إلا في حالات محددة، كنت أعرف أنّها لن تنطبق علينا.

يقعُ منزلي على الشارع مباشرة، وهو مكشوفٌ من اتجاهين، الشرق والشمال، أمّا الجنوب، فهناكُ منزلٌ آخر يغطي منزلي، كما هو الحال مع الغرب، حيثُ تعملُ هذه المنازل كعازل يحول بين بيتي وبين تلقي أي قذيفة عشوائية من مدافع الهاوتزر والمدفعية- كان والدي قد أخبرني يومًا أن قذائف المدفعية تملك هامش خطأ يصلُ إلى مئتي متر-، فكان الخوفَ كله يقبعُ في اتجاهي الشرق والشمال. ومن هذا المنطلق، أخذتُ أفكر في التخطيط العمراني لمنزلي، حيثُ علينا أن نبقى بعيدين عن الشارع من هذين الاتجاهين، على الأقل، يجبُ أن نحتمي في مكانٍ يعزلنا عن الشارع بواقع جدارين، جدار المنزل الخارجي، وأي جدارٍ داخلي بوسعه التخفيف من حدّة الإصابة في حال حدوثها، كان علينا أن نبقى في قلب المنزل.

في ممرٍ صغير في منتصف المنزل، وضعت زوجتي فراشًا بسيطًا، أمّا أنا فقد أخذت أعدد الجدران التي تفصلنا عن الشارع، عددتُ واحدًا، فاثنين، وكان هذا أكثر ما يمكنُ، ثم تنهدتُ بارتياح، فقد كان هذا أكثر ما بوسعي فعله، أن أعد جدارين بيني وبين الشارع.

لم يدمُ هذا الارتياح البسيط لفترةٍ طويلة، فقد شهدت الأيام التالية أحداثًا كان من شأنها أن تغيّر من سير الأحداث، إذ بدأت موجة جديدة من عمليات القصف، والتي كانت تستهدفُ البنى التحتيّة في القطاع، وبالأخص، الشوارع. وعلى اعتبار سكناي عند مفترق طرق مفصلي يربطُ بين شمال القطاع، ومدينة غزة، كان عندي هاجس كبير من تعرض شارعنا للقصف، وبالتالي، وبناءً على هذا الحدس، فقد كان عليّ أن أجد مكانًا جديدًا للاختباء: وقفتُ على الشرفة المطلة على المفترق بحذر، حسبتُ المسافة مرّةً واثنان وثلاثة، وفي كل مرّة، كانت الإجابة ذاتها تتكرر: لا يمكنُ أن أبقى في المنزل. لقد كان يفصل منزلي عن الشارع قرابة ال20 مترًا، وفي حالة الاستهداف المباشر بالصواريخ الثقيلة، سيخلقُ هذا حفرةً لا يقل قطرها عن عشرة أمتار، ربما يكون بوسع العشرة أمتار الأخرى أن تحمى المنزل من السقوط أو الدمار، لكنها بالتأكيد لن تكون كافية لمنع سقوط بعض الجدران الداخلية، النوافذ، وغيرها من العوازل التي نختبئ خلفها.

في ليلة الثامن عشر من مايو من العام 2021، كنتُ أتابع ما يجري من خلال منصات التواصل الاجتماعي؛ لقد كان الأمر ساخرًا بحق، فقد كانت المقاتلات الحربية الإسرائيلية تنطلقُ من مهبطٍ خاص بها في مدينة الخليل، وعليه، فقد كان أهلنا في الخليل أول من يعلم بتحليق سرب المقاتلات نحو غزة. وحين يحدثُ هذا، يبدأون بالكتابة عبر الفيسبوك، محذرين أهل غزة، بأنّ المقاتلات الحربية قد انطلقت، متوقعين بأنّ تحذيرًا كهذا بوسعه أن يشكل فارقًا في حياتنا أو موتنا.

على كلٍ، في تلك الليلة، قامت المقاتلات الحربية بالفعل بتنفيذ عدد مما يطلق عليه "الحزام الناري"، وهو يعني ببساطة، قصف عدد من النقاط المتفرقة في البنية التحتية في الشارع. في خانيونس، وفي وسط القطاع، كانت الطائرات قد قصفت عددًا من الشوارع بالفعل. أمّا قبل ليلتين، فقد كانت المقاتلات قد نفذت حزامًا ناريًا في شارع الوحدة، راح ضحيته أكثر من 40 فلسطينيًا، لم تصب الصواريخ منازلهم بشكلٍ مباشر، لكن المنازل هوت فوق ساكنيها بسبب تأثرها بالقصف. وبالعودة إلى هذه الليلة، فقد كانت الساعة قد قاربت الثانية عشر ليلًا، لكن هذا لم يكن إلا ليزيد شعوري بالقلق والتوجس. نظرتُ من الشرفة مرةً أخرى، حسبتُ المسافة من جديد، الوقت الكافي لوصول المقاتلات من جنوب القطاع إلى شماله، وتأكدتُ بأنّني لا أملكُ أكثر من 3 دقائق في حال أردتُ النجاة.

سريعًا، وظبت الأساسيات: أنا، زوجتي، وابنتي. تقولُ زوجتي: بطاقات التعريف، اللابتوب. أخبرها بأنّ هذا لا يهم، ففي حال بقينا أحياءً، سأقومُ بإصدار بطاقات جديدة في حال فقدانها، أمّا اذا انتهى أمرنا، فلا شيء لنبكي عليه، لكن، إلى أين سنذهب، تسألني زوجتي، بالطبع، للمنزل المجاور، أجيبها.

يبعد منزل جيراننا عن بيتنا مسافة 10 أمتار، وعلى ما أذكر، فقد كانت هذه أطول وأثقل 10 أمتارٍ أسيرها في حياتي، في منتصف الليل، حيثُ لا يوجد ما يسيرُ على أرض القطاع في هذا الوقت سواي أنا وزوجتي وابنتي ذات الشهور السبعة. وصلتُ إلى الجيران، فسألوني عن سبب مغادرة المنزل، أفصحتُ عن هواجسي ومخاوفي، فضحكوا، لكنهم أحسنوا استقبالنا.

أمضينا ليلتنا، دون أن أشعر بالخوف، فالمنزلُ محاطٌ بمنازل من جميع الاتجاهات باسثتناء الشرق- منها منزلي بالطبع-، لكن هذا لم يكن السبب الحقيقي، بل كان السبب هو في وجود عدد كبير من الناس، والذين أشعرني وجودهم ببعض الأمان، إذ نتبادل الأحاديث، ولا نملكُ وقتًا كافيًا للشعور بالخوف، إلا عند دوي صوت انفجارٍ جديد.

كنتُ أفكر، حينُ أجد الفرصة لهذا، لو تعرض الشارع للقصف، فإنّ منزلي سيسقط بلا شك، لكن هذا لم يكن ليشكل فارقًا كبيرًا في تلك اللحظة، فعلى الأقل، لن يسقط فوق رؤسنا.

مضت الليل إذن، دون أن يتعرض الشارع للقصف، وقد جهزتُ نفسي لموجة من سخرية الجيران الذين استضافوني، ومع تمام الساعة السادسة صباحًا، غادرت باتجاه المنزل مطأطيء الرأس. صعودًا نحو الطابق الثالث، وبالتحديد حين وضعت المفتاح في الباب، كان صوت الصراخ قد ملئ الحي بالفعل. ماذا هناك؟ صرختُ من الشرفة. سيقصفون الشارع، أجابني صوتٌ قادمٌ من الأسفل.

كان الشارعُ الذي أقطن فيه، في شمال غزة، هو أول شارعٍ يتلقى أهله اتصالًا سابقًا لقصفه.

لم أجد الوقت لأجلس، قمتُ بإزالة نوافذ المنزل على عجالة، كما وأنبوبة الغاز في المطبخ المطل على الشارع، عدنا أدراجنا مرّةً أخرى لبيت الجيران، وهذه المرّة، كانت نظرة الانتصار تعلو وجهي على جيراني الذين سخروا منّي بالأمس، وكأنّني أقول: ألم أقل لكم. غريبٌ هو الانسان، حتى في هذا الحال، لم يكن بوسعي منع نفسي من التباهي بقدرتي على التحليل.

تلقى الشارع صاروخًا تحذيريًا، وانتظرنا بفارغ الصبر ليتم الأمر، لكنّه لم يتم، إذ تلقى بعض الأشخاص اتصالات جديدة من الجانب الإسرائيلي تفيد بتأجيل الضربة إلى الليل.

الآن، أمتلكُ الوقت الكافي والجراءة لمغادرة المنطقة، كما ولجمع ما يمكنُ من الأوراق والأغراض الشخصيّة. اتجهتُ إلى منطقة الشيخ رضوان حيثُ تقطنُ أختي عبر سيارة أوقفتها وطلبت منه ألا يأخذ أي ركابٍ آخرين، فهذا أكثر أمانًا، فأنت لا تعرف من قد يشاركك التاكسي. واستقرينا في منزلها ليلتين، جرى قصفُ الشارع في الأولى منها.

الآن، أملكُ القدرة على التفكير بالتأشيرة مرّةً أخرى، فقد انتهى العدوان، لكنّني لا أملكُ ما يكفي من المال لدفعه دفعةً واحدة دون سابق تخطيط، فقد كان عليّ تجديد جواز سفري، استصدار جواز خاص بزوجتي وابنتي، قدرت تكلفتهم بمبلغ 200$، إلى جانب تكاليف الفيزا نفسها لثلاثة أشخاص، وهو مبلغُ يقارب ال500$، أي 700$ بالمجمل من أصل 1000$ أتلقاها كمرتب.

كان عليّ الانتظار إلى نهاية الشهر لأبدأ بالإجراءات، وتقدمتُ بالفعل من خلال أحد المكاتب في قطاع غزة، والتي كان عليها بدورها أن ترسلها إلى رام الله لإصدارها وتصديقها، لكن، مجددًا، عليّ الإنتظار، فمعبر إيرز مغلق، ولا يوجد ما يدخل إلى القطاع أو يخرج منه إلا من خلال هذا المعبر. لحسن حظي، كان المكتب الذي تعاملت معه جيدًا، فقد قام بإرسال الأوراق إلى رام الله، عبر مصر ثم الأردن ثم رام الله، وفي الوضع الطبيعي، فإنّ اصدار أو تجديد جواز سفر لشخص في غزة يأخذ ما بين 7 إلى 10 أيام. لقد قدمتُ كافة الأوراق المطلوبة بتاريخ 29 مايو من العام 2021، وكنت أتوقع أنه في أسوء الأحوال، سيصدر بحلول العاشر من يونيو، لكنه أصدر بتاريخ 21 من يونيو من العام ذاته، أي بعد ثلاثة أسابيع من تقديم الأوراق. شكرتُ المكتب بالطبع لأنّه لولا إرساله للأوراق عبر مصر ثم الأردن، ربما كنت سأحتاج إلى شهرٍ آخر.

والآن، علينا انتظار موافقة السفارة التركية على طلباتنا، والتي تأخذ عادةً ما بين ثلاثة أسابيع إلى أربعة، مما يعني، في أسوء الظروف، أنه بوسعي أن أحصل على جوازي مجددًا، مع تأشيرة إلى تركيا، بحلول ال20 من يوليو من العام 2021، لكن هذا لم يحدث.

وكما كان متوقعًا، فقد حرّك العدوان الأخير الرغبة لدى عدد كبير من سكان القطاع لمغادرته، وعلى اعتبار تركيا الوجهة الوحيدة المتاحة للغزيين آنذاك، فقد قدر عدد الطلبات التي استلمتها السفارة التركية بعد عدوان العام 2021 مباشرة ب15 ألف طلب، وهو ما يعني بالتأكيد، وقت أطول.

بتاريخ السادس عشر من أغسطس من العام 2021، حصلتُ أخيرًا على الجوازات، بوسعي أن أحلم بعالمٍ لا أرى فيه طفلتي وأتخيلها مغطاةً بالدم والركام.

اللوحة الثانية: العبور.

إذا كنت تعتقدُ بأنّ الفصل الأصعب قد ولّى، فقد تكون مصيبًا، فلا شيء يضاهي البقاء على قيد الحياة، سوى الشعور بأنّك على قيد الحياة. وحتّى أتمكن من الوصول إلى اسطنبول، مقر اقامة والديّ، كان عليّ أولًا الوصول إلى مطار القاهرة، حيثُ لا يوجد مطارات أو موانئ في قطاع غزة. يُشاعُ أحيانًا بأنّ سكان القطاع لديهم ذاكرة قصيرة، أو قدرة عالية على التكيّف مع المصائب، وعلى الرغم من احتمالية وجود تفسيرات أخرى، إلا أن جزءً من هذا ربما يكون صحيحًا، فبمجرد أن يبدأ الغزي الخطوات الفعلية للخروج من القطاع، يصبحُ هذا الجزء كابوسًا يطارده ليل نهار، بشكلٍ يتفوق على الحرب نفسها في بعض الأحيان.

الطبيعي، أن يبدأ المرء من خلال حجز تذكرة الطيران، لكن هذا غير ممكن في حالتنا، فعلينا أولًا أن نضمن إمكانية دخولنا للأراضي المصرية، وهو خيارٌ مضمون إذا قمت بدفع المبلغ المطلوب تحت مسمى "تنسيق"، وهو مبلغ من المال ندفعه كغزيين بشكلٍ إجباري للمصريين للسماح لنا بالدخول إلى مصر، إلى جانب تكاليف التأشيرة المصرية ذاتها. لقد وصل هذا المبلغ في بعض الفترات إلى 3000 دولار للشخص الواحد، وهو يتراوح في الوضع الطبيعي ما بين 500 إلى 900 دولار

حين أردتُ السفر، في سبتمبر من العام 2021، كنتُ من المحظوظين للغاية، إذ كان مبلغ التنسيق المطلوب 400$ فقط، وقد نظرتُ إلى هذا الانخفاض كمؤشر جيّد على أنني أمام رحلة موفقة، فدفع رشوة مقدارها 400$ أفضل بكثير من دفع 900$.

لكن، في الجانب الآخر، وعلى اعتبار وجود إمكانية لرفض دخولي للأراضي المصرية، فهذا يعني أن عليّ تكبد سعر تذكرة طيران باهظة الثمن بسبب الحجز المتأخر الذي لا مفر منه، فقد تقومُ بالحجز في تاريخ محدد، لكن اسمك لا يكون مدرجًا في كشف المسموح لهم بالسفر، وهنا ستخسر قيمة التذكرة المدفوعة مسبقًا. إذن، فالخيار الأمثل، هو الحجز بعد التأكد من السماح بالعبور، وهو ما لا يمكنُ فعله سوى بالوصول إلى الجانب المصري، قضاء يوم كامل عبر حواجز غزة، ثم مصر، تسليم الجوازت، وانتظار القرار المصري عند حلول السادسة مساءً.

وهذا ما حدث، عند السادسة مساءً من تاريخ الأول من سبتمبر من العام 2021، سمح لي الجانب المصري بالذهاب إلى مطار القاهرة، لكن كان عليّ أن أكون مصحوبًا طوال الطريق الذي يقدر بـ400 كم بأشخاص من المخابرات المصرية لضمان عدم نزولنا من الباص المخصص لما يطلق عليهم بالمرحلين، وهو من يتم ترحيلهم من قطاع غزة إلى مطار القاهرة مباشرة، مع حراسة مشددة، وهم الذكور ما بين 18 عامًا، و40 عامًا.

في الطريق، والتي استغرتني يومًا ونصف، وعند واحدٍ من الحواجز التي وقفنا عليها لما يزيد عن 3 ساعات، وجدت نفسي أنشد التالي:

قال المجنّد للمرحل عن بلادٍ مرةً كانت بلاده: فلتنتظر.

قال المرحل للمجنّد في بلادٍ أبعد من بلاده:

كم عمرًا فوق عمري سوفُ يحتاجُ المرحل

ليمر حرًا من خلالك؟

كم حاجزًا نصبت يا ابن دمي

يا ابن الثلاث العاليات الساريات

في وجداننا الدامي

لتفحص ما طلبته أمي لغلي الهيل

كم مدفعًا يكفيك في جسدي وفي الرحلة؟

كم مدفعًا يحميك من طفلة؟

قال المجنّد مرةً أخرى:

ستبيتُ ليلًا آخرًا، في الحاجز المنصوب في كبدك

ستسيرُ مطأطي الرأس مذلولًا، وليحترق جسدك،

إيّاك أن تسأل، إيّاك أن تخجل

للسر للقيامة من خلالي، بلا زادٍ ولا رفقة

سر للمهانة شاكرًا إيّاي، لا تلتفت، لا تلتقط صورًا

لما حضرتُ من جندٍ على طول الطريق

إيّاك أن تشكو المسافة،

والمتاهة،

والحريق.

في مطار القاهرة، استقبلنا بشكلٍ جيّد، وضعنا في غرفة ذات مساحة واسعة، بها مقاعد حديدة كالموجودة في صالات الانتظار في المطارات، حمام كبير، وامكانية للتدخين. في اليوم التالي على وصولي، سار بي ضابطٌ آخر، بعد أن طلب منّي واثنين من الشباب الموجودين في القاعة، والذين حان موعد سفرهم، أن نشتري له كروز سجائر من نوع "LM"، لحسن الحظ، كانت تكلفته 21 دولارًا فقط، وقد دفع كل واحدٍ منّا 7 دولارات كهدية للضابط.

أخذني نحو شركة الطيران التي حجزتُ لديها، كان حجزي درجة أولى، فكتب الضابط على التذكرة "VIP"، رافقني نحو السوق الحرّة، وقال لي: أنت حر الآن. بالطبع، كنت قد بدلت ملابسي، ارتديت شيئًا شبابيًا خفيفًا ونظيفًا، رششتُ عطرًا جيدًا، ولم أتحدث سوى الإنجليزية في السوق الحرّة، فأنا الآن حر، وVIP.

اللوحة الثالثة: اسطنبول.

لم يكن الوضع سيئًا، فقد تلقيتُ كفلسطيني معاملة جيّدة من الأتراك في أغلب الأوقات عند معرفتهم بأنّي فلسطيني، كان عليّ أن أتلقى بعض الشتائم في البداية لمجرد تمييزهم للغتي العربية، لكن هذا كان يتغير عندما أخبرهم بأني فلسطيني. كان عليّ أن أكون حذرًا بعض الشيء في المواصلات العامة، ألا أتحدث العربية، لأنهم لن يجدوا الفرصة ليسألوني من أين أنت، فهذا ليس حوارًا عابرًا في الشارع. هناك قاعدة مهمة في اسطنبول وتركيا: إيّاك أن تتحدث العربيّة في المواصلات العامة.

لم أكن أتلقى أي اتصالات أثناء وجودي في المواصلات العامة، وقد كان هذا اختيارًا ذكيًا، منع عنّي الكثير من العناء الذي لا طائل من ورائه، وتجنبتُ الحديث مع أي شخص أرافقه باتفاق منّا نحن الاثنين عند استقلالنا للمواصلات العامة. أمّا إذا ما أردتُ شيئًا من بقالة، أو تعرضت لسؤالٍ مفاجئ من شخصٍ تركي في الشارع، فكل ما كان عليّ فعله هو التظاهر بأنّي أصم، وأنني أتحدث لغة الإشارة. لقد كان هذا ذكيًا بالفعل، فبدلًا من تلقي نظرات غضب أو شتائم، كان يُنظر لي بعطف بالغ، واعتذار أحيانًا. هكذا، كنتُ أقلب الطاولة، فبدلًا من التعرّض للعنصرية لعدم معرفتي للغة التركية، كان المتحدثون غالبًا ما يشعرون بالسوء تجاه أنفسهم لعدم تحدثهم لغة الإشارة.

في اليوم الأخير لي في اسطنبول، وبعد أن قررت العودة مجبرًا لقطاع غزة بعد قضاء 70 يومًا هناك، وعلى الجسر عند محطة ميتروبوس-ميترو باص- أفجيلار، أوقفني رجلٌ تركي، فهمت أنّه أراد سيجارةً. حاولتُ إخباره أنني لا أتحدث التركية، فسألني: من أين أنت؟ فلسطين، قلت. غزة؟ سأل. نعم، أجبت. وجدتهُ يحتضنني بعدها، وشعرتُ بأنّ أسطنبول تريدُ أن تودعني بشكلٍ لائق في آخر ليلة هناك. أعطيته سيجارتين، فحضنني مرّةً أخرى، تمتم بعض الكلمات بالتركية، وغادر، ثم غادرت.

اللوحة الرابعة: العودة.
إذا سألتني، وقد أتممتُ الآن الثلاثين من عمري، عن أهم نصيحة تلقيتها في حياتي، فسأخبرك بالتالي: لا تأكل شيئًا في طريق العودة إلى غزة، ولا تنسى أن تدخل الحمام.

كنتُ قد وصلت إلى مطار القاهرة في تمام الساعة الثامنة من مساء التاسع من نوفمبر من العام 2021. سلمت جواز سفري لموظفة المطار، نظرتُ له، ثم لي، وأخبرتني: أنت تعرف أنّك ستعود إلى غزة مرحلًا، صحيح؟ أجبتها: نعم. طلبت منّي الانتظار ريثما يأتي الضابط المسؤول عنّي في المطار، وهو ما حدث بعد نصف ساعة، آخر نصفُ ساعة أشعرُ فيها بالحريّة.

في الغرفة الخاصة بالمرحلين إلى غزة في مطار القاهرة، طلب منّي الضابط أن أسلمه كل شيء أملكه، شنط السفر، هاتفي، أن أخلع حزامي وحذائي، وربّاط الحذاء. أدخلني غرفةً صغيرة، وأغلق الباب. هناك، وجدتُ ما يقارب ال15 عشر شخصًا من جنسيات مختلفة، كان أبرزها أمريكي مجنون، شخص من كوبا، رجل مسن من العراق، اثنين من الشباب من سوريا، 3 من اليمن، والباقي مصريين. أدركت حينها أن هذه الغرفة هي غرفة التوقيف في مطار القاهرة، وهي مخصصة للمخالفين، سواء لوجود أوراق مزورة، أو مخالفات، أو مخدرات. شعرتُ بضيق شديد لما أنا فيه، لكن شابًا مصريًا حاول أن يريحني قليلًا، وقال لي: لا تقلق، العم رجب سيأتي بعد ساعة، وهو ضابط محترم وطيّب. كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساءً، وعليّ أن أنتظر قرابة ال6 ساعات حتّى يتحرك الباص نحو غزة. متى يأتي العم رجب؟ سألته. بعد ساعتين، أجابني. قمتُ بحسبةٍ سريعة: ساعتين مع هذا الضابط، ثم سيأتي العم رجب، سيسمحُ لي بأخذ سجائري، واشعال واحدة، بعد أكثر من 10 ساعات سفر من اسطنبول، عمان، وصولًا إلى القاهرة.

وبالطبع، كان عليّ أن أحاول الاندماج قدر المستطاع، فبدأت بسماع قصص الناس. كان هناك شابٌ يعرفُ غزة جيدًا، تمام المعرفة، لكنه لم يكن غزيًا، وهذا كان واضحًا في لهجته، فهو سوري بالتأكيد. لاحقًا، عرفتُ أنه كان في هذه الغرفة لمدة تتجاوز الشهر، قبض عليه أثناء محاولة مغادرة مصر بتأشيرة مزورة إلى هولندا. وعلى اعتبار وجوده لفترة طويلة، فقد مر عليه كافة الغزيين العائدين إلى غزة، والذين حدثوه عن بعض أماكنها، فبات يعرفها تمام المعرفة. إنّه هنا لمدة شهر، قلت لنفسي، وأنا سأكون هنا لبضع ساعات فقط.

كم هذا جيّد.

شابٌ سوريٌ آخر، يبلغ من العمر 20 عامًا، دخل الغرفة مع العاشرة تقريبًا واندمج سريعًا، لكن هذا كله تغيّر بعد أن ناداه الضابط المناوب، خرج لبضع دقائق، دخل الغرفة مجددًا، وكان الدم وكأنّه سحب من جسده، أخذ مصليةً من على السرير، صلى كثيرًا، صعد لسريره، أدار وجهه للحائط، وسمعناه يبكي.

بعد ساعة من البكاء، أستطعنا التحدث معه، وفهمنا ما حدث. لقد خرج من لبنان بتأشيرة مضروبة، وقد ألقي القبض عليه في مطار القاهرة، وكان قرار الضابط المناوب هو إعادته لسوريا. "فور وصولي للمطار في سوريا، سوفُ يأخذني الجيش، ويقومُ بإعدامي، كما حدث مع أشخاص آخرين، منهم بعض أفراد أسرتي". قال هذه الكلمات، وسقط في نوبة بكاءٍ جديدة، ثم قام يصلي.

كم صلينا لأجله في تلك الليلة.

كان قلبي وكأنّه يعرفُ الحزن لأول مرّةٍ، بصدق، لكنّني، وفي الحيز الواقع بيني وبيني، حدثت نفسي بأنّني في وضعٍ أفضل منه، فأنا هنا لبضع ساعاتٍ أخرى فقط، عائدًا إلى بيتي وأناسي.

مع الثانية عشر تقريبًا، جاء العم رجب، سمح لنا بأخذ ما نريد من احتياجاتنا، نادى مراسلًا ليشتري لنا شيئًا لنأكله، لكنّه نوّه، ويا ليتني انتبهت: تذكروا، طريقكم إلى غزة طويلة، لا تأكلوا، ولا تنسوا أن تدخلوا الحمام. كنت جائعًا للغاية، لم آكل شيئًا منذ البارحة، فأرسلت مع المراسل 50 جنيهًا مقابل سندوش من صدر الدجاج، أكلته وتلذذت، دخلت الحمام سريعًا لأتبرز، لكنني تبولت فقط، ولم يكن هناك أي براز أو غائط.

مع الثالثة، صعدنا الباص، مع السادسة، تحركنّا. كان بوسعي أن أتخيل نفسي وأنا أستلقي فوق سريري في منزلي، أتحدث العربية دون أن يشعرني أحد بأنني غير مرغوب، أن أفعل وأن أفعل وأن أفعل.. لكن هذا لن يدوم طويلًا. مع تمام العاشرة، كنّا عند "معديّة الفردان"، يفصلنا عن غزة حوالي 7-9 ساعات، لكنّني لم أكن أعرفُ ما ينتظرني، فقد كانت معدتي قد هضمت ما أكلته في غرفة التوقيف، وعليّ الآن أن أتغوّط.

الباص يتحرّك، ولا سبيل لإيقافه. سألتُ الضابط المسؤول عنّا في الباص، متى بوسعنا أن نتوقف، قال لي: في العريش. في العريش! جزعتُ، وسكنني خوف العالم بأكمله، أطلعته على حالتي، فقال لي: هل كان لزامًا أن تملئ بطنك بالطعام! لا يمكننا أن نتوقف في أي مكان. في أي لحظة الآن، يمكن أن يقومُ جسدي بإخراج الغائط بشكلٍ لا طوعي، وأنا هنا الآن، يفصلني عن العريش حوالي 6 ساعات. كل ما كنتُ أفكر فيه، هو مآلات التغوّط اللا إرادي: كيف سينظرُ لي بقية المرحلين؟ كيف سيحتملون رائحة الغائط ل6 ساعات؟ انقباضات المعدة لا تتوقفُ بسبب الحركة في الباص، سأتغوط في أي لحظة الآن.

أحاولُ مقاومة الشعور بالتفكير في شيءٍ آخر، غزة، الحارة القديمة، الجيران، المنزل، أي شيء، لكن لا شيء يجدي نفعًا. كنتُ أعلم أن التركيز على الشعور بالحاجة للتغوط لن يصاحبه سوى ألمُ شديد، أتلوى في مقعدي، أحاولُ النوم، فربما تمكنت معدتي من مقاومة الشعور والتصرّف كما في حالة النوم الطبيعي وتأجيل الغائط للصباح حين يصبحُ الأمر ممكنًا.

أغفو بعض الوقت، أستيقظ، كم من الوقت انقضى؟ ساعة.. جيّد، تبقى 5 ساعات حتّى نصل العريش. وكل ما أفكرُ فيه: هل أخرجتُ ريحًا وأنا نائم؟ هل أخرجتُ ريحًا بصوتٍ مسموع؟ أتلفتُ حولي، أراقب وجوه بقيّة الركّاب، هل يشعرون بالإشمئزاز منّي؟ تبدو معدتي أكثر استقرارًا، لكن سرعان ما تعودُ الحاجة إلى التغوّط ملحةً، لكن، لا سبيل.

أريدُ أن أبكي، كنتُ مستعدًا في تلك اللحظة على مقايضة دقيقة واحدة ولو في الصحراء بكل ما أملك، أعودُ إلى الضابط، أخبره بحالتي، فيجيبُ بغضب: أخبرتك أنّنا لن نقف سوى في العريش، ولتتحملُ نتائج أفعالك! بدا كلامه منطقيًا بالنسبة لي، فقد أوعز لنا العم رجب بهذا، لكنني حاولت، أقسم بالله أنني حاولت..

تبقت أربع ساعات على الوصول إلى العريش، لكن الألم لا يزول. أحاولُ أن أغفو قليلًا، لكن خوفًا شديدًا من أن أخرج ريحًا أثناء النوم يسيطرُ عليّ.

ثلاث ساعات، وأكثر من 200 كم، نقفُ عند حاجزٍ مشهور، بالطبع الآن هناك الكثير من الانتظار، لكنّها كذلك فرصة لإيجاد حمام. أذهبُ إلى الضابط، أخبره بحاجتي للدخول إلى الحمام، يسألني: هل تريدُ أن تشارك الجيش حمامه؟ أنت مجنون!! أفكرُ، في كلامه بعض المنطق، فربما مثلًا سأقومُ بزرع قنبلة في الحمام، لا، لا يمكنهم السماح لي بالتغوّط، فهذا خطيرٌ للغاية.

تبقى ساعتين على الوصول، وقد استطاعت معدتي تطوير آليات دفاع ضد هذا الشعور، لا أعرفُ كيف تحديدًا، لكنّ الألم يزول شيئًا فشيئًا، لكنه لا زال موجودًا. في تلك اللحظة، لم أكن الوحيد الذي يشعرُ بهذا، فقد كان الجميع مرهقًا، حتى الضابط نفسه. توقف في مكانٍ ما، بدا ككافتيريا على الطريق السريع، قال أنه سيأتي بورقة هامة، غاب قليلًا، وقد عرفنا أنه ذهب إلى حمام مع سائق الباص. أفكر، من الطبيعي أن يذهب وحده، فلن يكون قادرًا على السيطرة على 50 راكبًا يريدون الدخول إلى الحمام، هذا سيأخذ على أقل تقدير ساعة لو قلنا أن كل شخص فينا يريدُ ولو دقيقة واحدة في الحمام.

هكذا، سيتأخر الوقت، وسيكون العمل في المعبر قد انتهى، وسنضطر للبيات في معبر رفح. بعض الأصوات بدأت بالتعالي بأننا نريدُ الذهاب إلى الحمام، لكن أصواتًا أخرى قابلتها بأنّ هذا سيعني اضطرارنا لقضاء الليلة في رفح بدلًا من بيوتنا، وقد بدا هذا منطقيًا، لكن المعدة لا ترحم.

في العريش أخيرًا، مع تمام الساعة السادسة والنصف مساءً، أقل من ساعة لإغلاق آخر الحواجز قبل المعبر. الضابط يجري حسبته سريعًا، ويطلعنا على النتيجة بصوتٍ واثق: لن نتمكن من النزول في العريش، سنكمل طريقنا إلى المعبر.

إلى المعبر؟ أفكر في حيزي الضيّق بيني وبين ذاتي، هذا يعني ساعة ونصف أخرتين. وبمجرد تلقي الخبر، عادت انقباضات المعدة سريعًا، وعاد الألم، شديدًا.

من جديد، أريدُ أن أبكي..

وبكيت، كما بكيت لأول مرّة وأنا في الصف الأول من المدرسة عندما أردتُ الذهاب إلى الحمام، فمنعني المعلم.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök