Hoppa till huvudinnehåll

صورة للهارب في ملاذه

في هذا النص، جعفر (اسم مستعار) يتأمل من منفاه في أوروبا تجربته هو ومعارضين آخرين مع الاعتقال والتعذيب في السجون المصرية. تأتي التدوينة مقسمة في فقرات بعضها مصبوغ بألوان، وبعضها الآخر يحدث في أكوان موازية، حيث توصف أفكار وتأملات تخص المنفى وما يحيط به من خوف وخزي. تناقش الفقرات الملونة مشاعر متصلة بذكريات الإذلال وسوء المعاملة، بينما يُسمع في الأكوان الموازية صوت أكثر تأمل وعقلانية. تحيلنا الفكرة بسهولة إلى تعريف المنفى عند إدوارد سعيد باعتباره حالة من عوالم متوازية.

كيف يبدو يوم الأربعاء؛ أهو أزرق أم بني فاتح؟ أي لون قد ينتج عن اتحاد لون الطين بالظلم في بلد المنشأ مصر، تلك التي يحكمها الجنرال السيسي منذ 2014؟

Credits كاتب المقال: جعفر 14 april 2021

إلى سارة حجازي وشادي حبش والطريق الواصل بينهما


"أليس الأربعاء أزرق؟" سأل عبد الرحمن الجندي عندما كان سجينا"

، لتأتي الإجابة في ذهني مباشرة؛ بل هو بني فاتح! تحدث الجندي عن ظاهرة تدعىSynesthesia يستقبل أصحابها الكلمات والأشياء عبر أكثر من حاسة، فتستنفر كلمة ما عند سماعها لونا معينا، لأكتشف من خلاله أن هناك اسم وتشخيص لحالة ظننتها جزءا من وعي الجميع كما هي من وعي.

كنت لحظة قراءة المقال مهاجرا حديثا لأوروبا، مضى على وجوده هناك أربعة أشهر. لم يجد عملا بعد. لغته في المستوى المبتدأ، وطبيعة إقامته لا تأهله لدعم حكومي. علاقة عاطفية آخذة في التوتر، وانفصال يلوح في الأفق. انتقال اضطراري من الشقة. وغنمات جحا المعدودة في جيبه تكفيه فقط لحجز تذكرة إلى مصر.

تحدث عبد الرحمن عن لون الظلم فوصفه بالطين المبتل، ووجدت نفسي بطريقة ما ألون مصر بنفس اللون.

بنفسجي
“اطلع يابن الشرموطة" قال ويده تشدني من توكة الحزام، بينما يد زميله تدفعني من الخلف، تكاد تنحشر في مؤخرتي. عيناي معصوبتان، أتعثر في السلم الذي يأمراني بصعوده. يوليو ٢٠١٤. الجنرال لتوه صار رئيسا، والجو حار. نهار رمضاني، والحلق جاف، والعرق بين العصابة وعيني حارق. حساسية جلدية تجاه الحرارة تلون جلدي الآن أحمر بنفسجيا. أتذوق العرق المصبوب على شفتي؛ طعم العصابة النتنة بول أصفر. ثلاث ساعات السواد يتسيد المشهد خلف العصابة. ثم قيل فليكن النور في الأرض، فسرت الكهرباء في جسدي؛ مضيئة كالبرق، بيضاء أخيرا.

يتكامل الأسود والأبيض في الصورة، فيدعوان بتكاملهما الماضي، ذاكرة ظننتها قد اندثرت تتجلى من جديد؛ بيت زميل في المدرسة الابتدائية أواخر التسعينات. خرجنا من المدرسة مبكرا، نلعب حتى موعد الانصراف، كنا اثنين فقط فوقع الاختيار على الاستغماية. تغميت وشرعت بالبحث عن زميلي. استدرجني إلى غرفة ضيقة مليئة بالكراكيب وخزين البصل، ثم أغلق على الباب. لم يفد صراخي وطرقاتي على الباب. شرعت بالتحرك بعصبية متعمدا إحداث فوضى في كل ما طالته يدي، أملا أن يخاف الولد فيفتح لي. لكن سقط على رأسي شمعدان حديدي. لم أفقد الوعي كليا، لكني تجمدت في مكاني. ضاق نفسي، وشعرت بلحظة استسلام كأنها الموت. ذاكرة كنت قد نسيتها تماما، حتى استدعتها لحظة تجمد مشابهة تحت سيل الضرب.

كون مواز 1
في فمه وفي شرجه، تطل الخراطيم بحثا عن شريحة هاتف، عصام عطافي إجراءات تفتيش روتينية يموت. وبمكان ليس بعيدا، في سجن النساء، مرتدية كيسا أسود؛ تطل يد المفتشة في مهبل امرأة. وعلى حمام السجن، محايلا كيسا بلاستيكيا ليطل من دبره، يجلس أحمد ناجي؛ منتظرا ولادة الأدب.

رمادي
لم تستهوني فكرة البطولة يوما. كفرت تقريبا بكل الأفكار الكبيرة. لا يحركني انتماء ولا تقودني نظرية. حاولت فقط مناقشة الأفكار الدائرة برأسي، ورغم خوفي تقريبا من كل شيء، وجدت الخوف من القوي لا يناسب ذائقتي في الخصال. لم أمثل أي خطر على النظام السياسي، ولا أظنني سأمثل وإن بقي هذا النظام حاكما لمئة عام. رغم ذلك هو نظام ذو غباء كاف كي لا يفرق بين من يهدده ومن لا يفعل. احتُجزت مرتين، في نوفمبر٢٠١٠، ثم في يوليو ٢٠١٤، الأولى كنت أجمع فيها توقيعات لتغيير مواد دستورية يعلم الجميع أنها لن تتغير. والثانية بسبب جريدة طلابية كنت ضمن كتابها ومحرريها. مرت الأولى بسلام، وكانت الثانية مذلة. في المرتين خرجت في اليوم نفسه. بعد مدة أقصاها اثنتا عشرة ساعة. في الثانية رأيت شبح السجن. خفت. خفت التعذيب بالأخص. خفت على أهلي ومعارفي. توقفت عن الاهتمام بالسياسة لزمن. فقدت حتى الاهتمام بها. أدركت ضآلتي، ورضيت في النهاية بالخوف ضمن مختارات ذائقتي الرفيعة. لون التخلي؟ رمادي فاتر.

كون مواز 2
«كل تجارب الإنسان يدفعها البحث عن السعادة وتنتهي بالبحث عن النسيان» أحمد عبد اللطيف، روائي مصري.

نحاسي
سلمت نفسي لحظة القبض علي للمخبر محاولا تسجيل كل تفاصيل الحدث، لأقوم بالإبلاغ عن أي سوء معاملة. ثم خرجت لحظة إلقائي على الطريق خائفا من تذكر أي مما حدث. منعني الخوف والصدمة من الإبلاغ عن الواقعة، مدركا تماما خطأ ذلك ومدركا أكثر عدم جدوى أي بلاغ، موقنا أن عواقبه ستكون أكبر. أشخاص معدودون حدثتهم عن الواقعة. أذكر اندهاش حبيبة سابقة لما عرفت القصة بعد أكثر من عام على علاقتنا. لم أدرك حقا لما لم أحكِ لها في وقت أسبق. أنكرتُ أن تجربتي تستحق الذكر حتى في ذاكرتي. نسبت شعوري العميق بعدمية كل شيء إلى اختيار فلسفي واع، والميل الشديد للعزلة الطارئ علي منذ هذا الوقت والمناقض كليا لحالي في السنوات التي سبقته، أرجعته لكل شيء عدا الواقعة. تذكرت رجوعي للبيت يومها كما رجوعي يوم واقعة غرفة الخزين، كما رجوعي من كل معارك الطفولة وبلطجة المراهقة؛ خائفا لما سيعرف أبي أن يوبخني لأنني لست دكرا.

كون مواز 3
قارئا معظم ما يكتبون، أتتبع أخبار المساجين؛ سجن جلال البحيري بالألوان، ومقالات علاء عبد الفتاح لا تخلو رغم جديتها من السخرية. أحمد ناجي يشخر كالعادة، وتظهر صور ماهينور ودومة وسناء عبد الفتاح بابتسامة. أتذكر في مقابلة صحفية معي بعد أشهر من سفري، أن سألني المحاور لماذا أضحك بينما أتحدث عن أوضاع مأساوية في مصر. أتذكر أيضا كلما قرأت نصوصي في أمسية، تواجد دائما أحد الحضور مبتسما بينما أقرأ، مصافحا يدي بعد القراءة، واصفا نصوصي بالمرح. لأتأمل باندهاش؛ كون آخر لا يرى بعض الناس فيه الديكتاتورية مضحكة، ولا الضحك من الآلام مريرا.

أصفر
بعد بضعة أشهر انتهت العلاقة العاطفية بالفعل. لكن كنت قد أمنت عملا في مؤسسة صحفية دولية. مشروع محدد بمدة. لكنه مكنني من الانتقال والعيش ببعض الهدوء. تأملت أن يمتد المشروع إلى أن أجدد إقامتي على أساس العمل. لكنه انتهى قبل ثلاث أشهر من موعد التجديد، لأعود من جديد لغرفة الخزين، أخبّط على الباب بعصبية وأكسّر ما حولي. يحركني الخوف لأبحث عن ملاذ، فتسقط الأشياء على رأسي. ولما كان ملاذي هذه المرة مؤسسا على مظلومية القمع؛ سقطت على رأسي هويات لم أردها.

مرة أخرى مصر بلون الطين المبتل. لا أجد سبيلا وسط مخاوفي، إلا التقدم بطلب منحة للكتاب المعرضين للخطر. الثقل نفسه يتعاظم بينما أستعيد التجربة كلها وأضعها بين أيدي المحققين. القلق نفسه من الشعور بأني محاصر. خائف إن لم يقبل طلبي من الطين المبتل، وخائف إن قُبِل من ألوان أخرى لا تشبهني.

اعتدت السؤال إن كانت مخاوفي من الرجوع لمصر حقا في محلها، جامعا الأدلة ضد نفسي. أقول أنه لم يتعرض لي الأمن منذ ٢٠١٤. صحيح أني كنت قد توقفت عما قد يستفزهم، وصحيح أني لما حاولت بعد أربعة أعوام الرجوع للكتابة السياسية قوبلت برقابة من المنبع. من محرري الموقع الذي كتبت له. وصحيح أيضا أن عملا إضافيا لي في وزارة الصحة المصرية قد تأثر بما أكتب وأناقش. صحيح أن زارتني المباحث ذات مرة لتبحث عن رجل في سريري. صحيح أن عملي في المؤسسة الصحفية سالفة الذكر قد يجعلني موضع شبهة بالنسبة لهم إن عدت. وصحيح أن السجان في مصر لا يعمل من المكتب أبدا ويُطلق ريحا خنزيرية تحبس الهواء. لكن عادي يعني، يجي ايه ده في قمع النظام اللي بجد؟

تراكم لدي شعور بعد سنوات أن ثقل التجربة علي كان مبالغا فيه، وهواجسي بتربص العين الرقابية لما قد أكتب أو أفعل تخصني وحدي. اعتبرت نفسي مضطهدا مدللا، لم يلق ويلات الاضطهاد بحق. ثم مضطهدا مذنبا، لأنه تم قبول طلبي، فائزا بملاذ قد يكون أحق به أشخاص تعرضوا لمعاناة أقسى.

سيكون من الكذب ادعاء أن الأمر كان تفكيرا وعويلا على آخرين فقط. في الحقيقة جزء من جمعي لأدلة عدم استحقاقي وعدم صلابة أسباب مخاوفي كان أنانيا، متمثلا في خوفي من هوية الكاتب المضطهد. ليس فقط لأنها هوية خطرة، قد تجعل من أي كاتب فقاعة محتفى بها لأسباب غير جمالية ولا تخص الفن بصلة، ولا لأن التجربة لم تعد مركزية في وعيي. لكن أيضا لأن هوية الكاتب المضطهد متدرجة في الألوان، لا أظن درجتي من لونها ستشفع لي.

كون مواز 4
يعاقب رب العهد القديم البشر الذين حاولوا بناء برج يصل إلى السماء، فيلغي اللسان الموحد بينهم ويتيه الناس في الشتات، كل واحد حبيس لغته. ويقول فالتر بنيامين أن لغة أكثر سمو تستطيع الترجمة وحدها أن تخلقها، كجسر بين لغتين، يقربنا من جديد خطوة نحو لغتنا الموحدة. لم يدرك بنيامين أن هذا السمو ستطرحه أرضا لكنة القارئ. ولم يدرك الرب أن لغات كثيرة، ستعني بالضرورة... آلهة أكثر.

أبيض
في عين المنقذ كل الناجين من الغرق قصصٌ ستحكى، لذلك من الأفضل أن تكون الناجي الذي قضم ساقه قرشٌ، لا الذي طفا بفضل حطام السفينة. يخبرني الجميع أنني محظوظ، لأن استضافة مدينة الملاذ التي أعيش بها الآن لم تكن لتحدث لولا وضع كورونا. حيث حالت الإجراءات الاستثنائية في أوروبا دون استقبال ضيوف من خارجها. ما جعل فرصي أفضل لأني كنت موجودا في بلد أوربي آخر. يسألني آخرون لماذا لا يجدون قصتي ببحث اسمي في محركات البحث، وأرى الحسرة في عيون بعضهم عندما أخبرهم أنني لم أسجن. هكذا لا تكفي لحظة التجمد التي أسست مأساتك، لأن جليدها قد قادك للتزلج في بلاد الشمال، دون انزلاق نحوها عبر منحدر السجن. حتى وإن كنت عبرت فوق حبل أعلى الثاني، حتى وإن لم تختر أن تلبس الزلاجات أصلا.

أشعر كالهارب من الجيش لحظة الحرب. على الحافة من شرف الامتناع عن القتل. على الحافة من خزي الجبن. منظور إليه بارتياب، رغم أنها لم تكن أبدا حربه.

واقفا على سور السجن ولم أدخله، وعندما قرأت تجربة أحمد ناجي في سجنه، حيث يحكي عن لوحات السور المرسومة بفن الكيتش، رأيت نفسي محبوسا في إحدى اللوحات، مشحونا للعرض بمعارض أوربا، ليشير إلي أحد الحضور ويصرخ؛ باهت.

كون مواز 5
تطور ذاكرتي ما ظنته اقتباسا، وأكتشف فيما بعد أنه مجرد سوء فهم. كلام عن أزمة الغريب في منفاه؛ كونه لا يفقد ألفة الـ "مع With" فحسب، وإنما يفقد أيضا ألفة الـ "بدون Without". لم يتغير يومي هنا عما كان هناك. لكن أشعر وأن حنيني ليس للأشياء التي كانت ملكي وتركتها من ورائي، بقدر ما هو لأشياء هناك ألفت التخلي عن امتلاكها.

أفكر في ذلك وأقرأ عن سجين خرج ليكتشف انستجرام وتويتر، فتصيبني قصته بالحزن. أنا الذي لم أهتم يوما بفتح حساب فيهما، دون أدنى شعور بافتقاد أي شيء.

أزرق
لا أحب أن يفهم ذلك كاجترار لمظلومية. لكن كنقد لخطاب لا يخص أصلا المهاجرين وحدهم ويعتصر كل شيء من أعمق جحر في الأرض لأقصى نقطة على القمر، مستخرجا منه سلعة صالحة للبيع. لا أضمر في الحقيقة سوى الامتنان للدعم الاستثنائي الذي قدمه القائمون على المنحة، ولا أدري ما كان ليحدث دونهم. دعم تركني شاكرا لهم بصدق، بل خالقا لرغبة في المساهمة من جهتي بشيء فيما يفعلون. لكن لا علاقة لذلك بتعقيد التجربة، بكثافة مشاعرها وتناقض صراعاتها، بعدم قابلية رسمها في بعدين على ورقة، وبضرورة الحديث عنها. بضرورة التصالح مع الجزء الخائف فيّ، جنبا إلى جنب مع الجزء الممتعض. مع تجادلهما فيما فعلت. مع حق الأول في الارتعاد، وحق الآخر في الإفصاح علنا عن خجله، معبرا عن أمله المحبط في تجنب كل ذلك، متسائلا برغبة صادقة في الفهم؛ كيف سارت بنا الطرق إلى هنا؟

كون مواز 6
أتساءل لماذا تجاوزت التجربة في مصر وتعاظم خوفي منها هنا؟ لماذا عدت للوقوف على السور؟ أقرأ لعلاء عبد الفتاح مقالا يحكي فيه عن رصاصات أُطلِـقت على مساجين حاولوا الهرب، تركت أثرها في سور السجن. وأشعر أن أثر تلك الطلقات كأنه ذاكرة أكثر كآبة من كل الحدث.

كتبت سابقا أن الجنود لا يكتئبون في الحروب، ويدخرون الاكتئاب لما بعدها. في الأسرة الطرية وجوار الدفايات... وأن شروخا في الكاحل ستطمئن للتصدع لما تختفي مقاومة الرمال. أن جرحا في البطن سيأمن نقص المسكنات فينفتح. وأن مسام الوجه ستتسع بعد غسل التراب الذي يملؤها. أن عضلات الوجنتين ستتهدل لما سيُعتاد الهلع. وأن الجنود المُطلَقون في الحرب، سيرثهم فوارغهم؛ جنود... نجوا.

أحمر
جالس في بيتي الدافئ. أتابع الأخبار. أتأمل إصابة أحدثتها طلقة مسدس، وصواب صنعه مشرط طبيب. أفكر أن الإصابة والصواب لهما في العربية نفس الجذر اللغوي. وأن الطلقة والمشرط في كل لغة... لهما... نفس الدماء.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök