Hoppa till huvudinnehåll
After the "Arab Spring"
6 min läsning

وأنتِ ... ما علاقتك بأمك!؟

Credits Text: Omar Kaddour 10 september 2014

قبل مغادرتي بلدي سوريا بنحو شهر، وبينما أمشي في الشارع الرئيسي في حيّنا، سمعت فتاة تخاطب رجلاً بصوت عالٍ: اِتركْ أمي.. دعْ أمي وشأنها. الكلام كان موجهاً إلى رجل يلبس الثياب العسكرية المرقطة، وتبدو عليه هيئة شبيحة النظام، الرجل ردّ عليها بغضب مقابل: وأنت.. ما علاقتك بأمك؟! ثم كررها مرتين: وأنت. ما علاقتك بأمك؟

سيكون صعباً على الكثيرين خارج سوريا فهم العبارة التي أطلقها الشبيح، فهو يستنكر بإصرار أن تكون الفتاة معنية بأمها وبمحاولة رد الأذى عنها؛ أنا نفسي فوجئت أمام هذا القدر من الوقاحة، واسترجعت في ذاكرتي الروايات العالمية التي تتحدث عن قسوة الديكتاتوريات فلم أعثر على حالة مشابهة، على حالة تُستنكر فيها الصلة بين البنت وأمها. في أثناء استرجاعي لأدب القسوة هذا، كنت أقول لنفسي إن فظاعة ما يُرتكب في حقنا، وما نراه بأعيننا سيكون من الصعب الآن كتابتهما في نص روائي أو شعري. هذه القسوة كفيلة أيضاً بتحطيم القواعد الأدبية، وبقدر ما تبدو الكتابة حاجة ملحة لنا ربما ستكون أشبه بالحديث المتحلل من أي قيد فني؛ السوريون بحاجة لأن يتحدثوا .طويلاً طويلاً كنوع من العلاج؛ الرواية والشعر وغيرهما من النصوص الأدبية قد تأتي لاحقاً عندما يتوقفالعنف الوحشي الذي نتعرض له.

كنت أفضّل قراءة الحوار بين الفتاة والشبيح في رواية ما، وأن أعتبره نتاج مخيلة روائية أو قصصية، لكن حدوثه على مسمعي كسر العلاقة بين الواقع والخيال. بين الحين والآخر أتذكر المشهد ويخطر في ذهني أننا نعيش في رواية شديدة القسوة لا في الواقع؛ الواقع ينبغي أن يكون شيئاً مختلفاً؛ في الواقع ينبغي أن تتمشى تلك مع أمها بأمان، وألا تكون نازحة من بيتها في منطقة أخرى تعرضت لقصف وحشي بطائرات النظام، في الواقع ينبغي أن تُعتبر صلة البنت بأمها من بديهيات الحياة، لا أن تكون مدعاة للاستنكار. الأقرب إلى الصواب إذاً أننا تصادفنا كشخصيتين في رواية، وأن عليّ كشخصية روائية أن أتذكر أيضاً عدم رؤيتي لأمي منذ أمد بعيد، لأنها تسكن في مدينة أخرى تتعرض للقصف اليومي، وأننا لا نقدر على تبادل الزيارات المعتادة بين ابن وأمها، وأن ذلك الشبيح سيكون لنا.

!بالمرصاد لأنه سيستنكر مجيء أمي لزيارتي ويقول لها: وأنت... ما علاقتك بابنك؟

في مشهد آخر، بعد مغادرتي سوريا بأيام، كنت أخاطب طفلتي ذات الثمانية أشهر عبر الـسکایب Skype، ولما صارت على وشك النوم رحت أهدهدها وأغني لها أغنيات ما قبل النوم المعتادة، بينما هي تغمض عينيها ثم تعود لتنظر إلى شاشة الكومبيوتر وتبتسم. لم يكن اشتياقي لها هو السبب الوحيد، كان هناك خشية من أن تنسى الطفلة صوتي أو شكلي مع مرور الأيام، لم يكن ما أقوله لها مهماً، بقدر ما كان مهماً أن تراني وتسمع صوتي كأنني لا زلت في جانبها. ليلة مغادرتي، كانت طفلتي للمرة الأولى على هذا النحو ترفض النوم وتبكي بلا انقطاع، عندما حملتها راحت تمسك بياقة قميصي وتتشبث بها لئلا أضعها في السرير. كانت كأنما تحس على نحو غامض بأنني مغادر بعد ساعات قليلة؛ في ظروف أخرى وفي سفر اعتيادي كنت سأقلع عن فكرة السفر نهائياً، لكن في تلك اللحظات كان عليّ أن أتماسك جيداً وأتغلب على انفعالاتي. الضعف الطبيعي لأب أمام طفلته كان ممنوعاً عليّ، وبالتأكيد لم أكن قادراً على اصطحابها في مغامرة الخروج المعقدة.

بعد اندلاع الثورة بحوالي سنة باتت الإقامة خطرة جداً، الأمر لا يتعلق فقط بتحول البلد إلى ساحة حرب. كنت أقيم في منطقة خاضعة لسيطرة النظام، وكان الشبيحة يداهمون البيوت ويحصون سكانها بأسمائهم المفصلة بحثاً عن معارضي النظام. بات عليّ أن أغادر نهائياً، مع صعوبة شديدة في الوصول إلى مناطق خارجة عن سيطرة النظام، أو أن أتوارى عن الأنظار في منطقة سكني نفسها مع وجود احتمال دائم للانكشاف من قبل أجهزة المخابرات. كان مقاتلو المعارضة قد سيطروا على مناطق قريبة جداً من سكني، لكن الوصول إلى تلك المناطق صار مستحيلاً بسبب الحصار الذي فرضه النظام عليها. استطعت الحصول على بطاقة هوية باسم مستعار، فقط صورتي على البطاقة هي الصحيحة، ورحت أعيش باسم آخر. كان عليّ أن أعتاد على أنني لستُ أنا بل شخص آخر، وكلما غادرت البيت ينبغي أن أتذكر أنني شخص يحمل اسماً واسم عائلة مختلفين مع انتماء لمنطقة أخرى غير منطقتي، لأن متطلبات الأمان اقتضت أن يكون ذلك الشخص المزيف منتمياً إلى منطقة مشهورة بدعمها للنظام. مع مرور الوقت اعتدت على أنني لست أنا أيضاً، صارت الصلة بيني وبين شخصيتي الحقيقية مصدر خطر، وصارت صوري المنشورة على شبكة الأنترنت بسبب نشاطي ككاتب مصدر تهديد لي، لأن أحداً من الجيران قد يلتقط الشبه المطلق بين الشخصيتين. صارت علاقتي بنفسي مصدر إرباك فالكاتب الذي بي يضعني في خطر، أما الصلة بيني وبين الآخرين بمن فيهم عائلتي فقد تسبب لهم مضايقات هم بغنى عنها، بتُّ أحس بنفسي كعبء على نفسي وعلى الآخرين.

في رواية جورج أورويل 1984، يتم تدريب الأطفال على الوشاية بأهاليهم لأجهزة المخابرات، ذلك ما توصلت إليه مخيلة أورويل في عام 1948 عندما كتب الرواية، وعندما كان العالم قد تخلص حديثاً من النازية ولا يزال يعيش تحت وطأة الستالينية. الآن فقط، وأنا أكتب هذه السطور، أتذكر أطفال رواية أورويل؛ ما تبقى من الرواية لم يعد يثير دهشة القراء السوريين، لأننا جربنا أنواعاً من القمع والوحشية لم تكن لتخطر في باله. الشبيح الذي كان يستنكر علاقة الفتاة بأمها ليس قادماً من عالم جورج أورويل، ولا من تلك الديكتاتورية المتطورة، لكنها يدرك بحسه المتوحش أن نجاحه في مهمته يقتضي أن يضطهد الأم بينما تتفرج البنت بصمت وألا تحس بأدنى دافع لتعترض عليه. في المعتقلات، وحتى عندما تداهم قوات النظام بيوت الثوار، يطلب القادة من عناصرهم اغتصاب النساء أمام أعين الآباء أو الأخوة والأزواج المقيدين زيادةً في إذلالهم. الأمر هنا لا يتعلق بالكرامة البشرية وحسب، إنه يهدف تماماً إلى تجريد الناس من أحاسيسهم الطبيعية إزاء أحبتهم المقربين، يهدف إلى تحطيم الاجتماع الإنساني في أشد حالاته حميمية. قتل الأبناء الصغار أمام أهاليهم المعارضين هو نوع من العقوبة الشائعة أيضاً؛ العقوبة أن يصبح الواحد منا خطراً على أقرب ذويه الذين لم يقترفوا ذنباً باستثناء صلة القرابة التي تجمعهم به. النتيجة المباشرة لهذا الوضع الشاذ هو أن الكثيرين منا يضحون بمشاعرهم من أجل حماية أحبتهم، يحاولون حتى إبعادهم عن أنفسهم وعن الأذى الذي يتهددهم بسبب القرب منهم.

ربما، بعد أن ننتهي من هذا الكابوس، سنكتب قصصاً وروايات عن أبناء نسوا أنهم أبناء، وعن أمهات يتذكرن أمومتهن فقط وهن يبكين أبناءهن القتلى. ربما سنكتب قصصاً شديدة الواقعية بالنسبة لنا، لكن العالم سيشعر بالدهشة إزاء ما يعتقد أنها مخيلة قاسية خاصة بنا. نحن القادمين من فيلم رعب طويل جداً، فيلم لا يراه العالم أو لا يريد رؤيته، لكننا أبطاله وضحاياه في آن، ربما لن يصدقنا العالم ونحن نسرد حكايات عن الوحش الذي عشنا معه، سيقول إننا نبالغ كثيراً عندما نتحدث عن الهياكل العظمية لعشرات آلاف المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب حتى الآن. نحن، سكان كوكب اسمه سوريا، سنبرهن على أن أدب القسوة الذي عرفته شعوب أخرى لا يعدو كونه مزحة صغيرة أمام واقعنا؛ نحن سكان المخيلة المتوحشة للديكتاتور.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök