Hoppa till huvudinnehåll

في جحيم الأسد

هذا اللقاء الصحفي مختصر لحوار أجراه مركز حرمون للدراسات المعاصرة مع الشاعر السوري فرج بيرقدار الحائز على جائزة توشولسكي لعام 2007

مصدر النشر بالعربية اللقاء بكامله:

https://www.harmoon.org/dialogues/فرج-بيرقدار-الأسد-أوصل-سورية-إلى-درك-ته/?fbclid=IwAR0yCbcwFokmNjMesoS5JRHmirLXpv85nTBsHtBwzmX1whK1VSiByWhvSs8

Credits أسئلة مركز حرمون للدراسات المعاصرة لفرج بيرقدار الصحفي: غسان ناصر تصوير: محمد سيدا 31 mars 2021

بداية كيف يقدّم الشاعر فرج بيرقدار نفسه للقراء؟
ج) للأسف أنني أنا فرج بيرقدار، الشاعر والصحفي السوري، بكامل قضائه وقدره ولعنة ظروفه الحجرية.

كم تمنيت لو أنني كنتُ غيري، أو لو أن سوريا كانت غيرها.

أنا من مواليد مدينة حمص. في الحادي عشر من شباط العام القادم سيغدو عمري سبعين طعنة أو وردة أو رقصة على حافة الهاوية.

أجرُّ ورائي جثة تشبهني إلى حد بعيد. إنها جثة أربعة عشر عاماً في سجون نظام الأسد، ما يعني أني حائز على أكثر من دكتوراه سجون، بعد تخرُّجي من قسم اللغة العربية بجامعة دمشق. أعمل كثيراً لتعويض السنوات المهدورة، لكن رغم ذلك أشعر بأني ما زلت عاطلاً عن العمل، وعاجزاً عن الضحك من كل قلبي.

أقيم في ستوكهولم إلى حد الحزن والكفاف منذ عام 2005، وما زلت منزَّهاً عن النوستالجيا، وقد يكون في ذلك فرادة لا أتمناها لعدوّي ولا حتى للأحد الصمد.

اسمح لي الآن أن أعود معك إلى المكان الأوّل، إلى مسقط رأسك حمص (عاصمة الثورة السورية)، ماذا تبقّى في ذاكرتك عنها وعن البيت الأوّل وأصدقاء الطفولة؟ وماذا أعطاك الابتعاد مكانيًا عنها وعنهم؟
ج) حمص تأبى أن تنأى، وتأبى أن تقترب إلا في الأحلام والمصادفات وكمائن العشّاق. ليس من عادتي أن أصلّي، ولكن حمص شأن آخر، وأنا مستعد أن أصلّي لها ومن أجلها. ربما لم تكن مصادفة أن تنشأ مملكة زنوبيا في الواحات التي صار اسمها لاحقاً بادية حمص أو صحراء تدمر. وربما ليس اعتباطاً أن جداتنا الحمصيات حفيدات زنوبيا حكمن روما. ما أقوله عن حمص هو رأيي الشخصي ومشاعري وقراءتي لها، ولست ملحاحاً على إقناع الآخرين بذلك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولكن لا أحد يستطيع أن يماري في أنّ حمص أمّ نهر العاصي، وهذا النهر سيِّد بلاغة العصيان، وهو في الواقع معلِّمي الأول، ولا أستطيع إلا أن أكون وفياً له حتى لو شَحَّ أو تبخَّر أو تواطأت النذالات عليه. حمص أجمل من أسمائها وتسمياتها، بما في ذلك تسمية (عاصمة الثورة السورية) التي تتآخى فيها فعلياً وواقعياً مدن سورية كثيرة. لم تكن حمص استثناء ثورياً، إلا أنّ الضرائب والضحايا التي دفعتها حمص كانت الأكثر فداحة، ومن شأنها أن تستحثّ وتستثير لدى الأحرار ما هو أكثر من دموع الخيول. حمص حكاية لا يمكن لأحد أن يحكيها ويفيها حقها. ربما هي كذلك لأني أحبها أولاً، وليس لأنها كذلك فعلاً.

(من قال حمصُ مدينةٌ لم يحسنِ التأويلْ

سأقولها امرأةً ومرآةً وسرواً سامقاً في الروحْ

سأقولها نهراً يجيد بلاغة العصيانْ.

من قال حمصُ بأهلها، وبخصبها، وشموعها، ودموعها

صدَّقتهُ، وذهبتُ خلف ظنونه حتى أرى أنَّ الأهلَّة تشبه الصلبانْ).

ما بين الحياة في مكان والجذور في مكان آخر، وتحت وطأة الحنين والشعور بالغربة، كيف تكتب عن أمكنة وآلام وأوجاع بلدك وأنت بعيد عنه؟
ج) بالنسبة لي على المستوى الشخصي، أخذت من الجذور ما أريد، وما لا يستطيع طاغية تجريدي منه. القحط والتصحُّر والتصحير في سوريا، حفز مقاومة الجذور لتضرب عميقاً في باطن الأرض. الأشجار في سوريا يمكن أن تخلخل أسس الأبنية. السويد بلد منعّم بكل أنواع الخيرات بما فيها الثلوج والأمطار والبحيرات، وبالتالي لا تضطر جذور الأشجار أن تنزل إلى الأعماق بحثاً عن ريّ وغذاء، لهذا فإن الأشجار في السويد يمكن أن تسقط عند ضربة ريح بسيطة. بالطبع ذلك لا يعني أني أدعو إلى قحط طبيعي أو سياسي أو معيشي لتمتين الجذور. توفّر الماء والغذاء والحرية والكرامة والعدالة والأخلاق أهم من مدى عمق الجذور. أمّا كيف أكتب عن ذلك فلا أدري. غالباً ما أشعر وأنا أكتب أن هناك في داخي مَن يكتب ما أريد بصورة أفضل مما لو كنت أنا من يكتب. ذاكرتي البعيدة ما زالت بخير وعلى رسوخها، أمّا ذاكرتي القريبة فكأن شيطاناً ما يدفعها إلى النفور أو الاستنكاف عن دورها ووظيفتها. وأفترض أني لو أُصِبت بفقدان ذاكرة، فإن الأحلام لن تكفّ عن إيقاظ الذاكرة واستحضار ما ينعشها. لست مهجوساً بالكتابة عن أمكنة محددة في بلدي، أو عن آلام وأوجاع محددة. أنا حين أتنفس لا أعرف ولا أعي ولا أنتبه كيف أتنفس. مؤشر حياة أن أتنفس، ومؤشر تنفّس أن أكتب.

اليوم، بعد سنوات طويلة من الحياة في المنفى، قضيتها في هولندا وألمانيا والسويد، لا تخضع كتاباتك لتهديد الزنزانة ولا لمقص الرقيب، فهل أفلتَّ من الرقيب الداخلي بعدما تخلصت من الرقابة الرسمية/ الأمنية كي تتمكن من كتابة ما تشاء بلا خطوط حمر؟
ج) الرقابات لدى أنظمة الشرق تتشابه وتتناسل وتتقمص كما لو أنها "ماتروشكا" الروسية، تلك اللعبة التي تمثِّل شكل امرأة في داخلها نفس المرأة لكن أصغر ثم أصغر ثم أصغر. لكن في السجن كما في المنفى، تتراجع الرقابات عموماً، وبخاصة الرقابة السياسية، وحتى الدينية، ولكن الرقابة الاجتماعية تبقى حاضرة حتى لو لم يكن هناك من يفرضها. وأنا لست خصماً لهذه الرقابة ما دامت ليست مفروضة بالقوة بل هي استجابة لدوافع اللطف والتسامح والمحبة والاحترام. أنا أراعي قناعات أمي، على سبيل المثال، حتى لو لم أكن مقتنعاً بها، ولكن ذلك لا يتعلق بتغيير قناعاتي، وإنما باختيار أفضل الطرق الممكنة التي لا تجرح مشاعرها، ولا تورثها غمّاً، وللأسف أني لم أنجح دائماً في تجنيبها همّاً متعلقاً باختلاف قناعاتنا. بعد أن تجاوزت أمي عمر الستين قررتْ أن تتعلم القراءة والكتابة، وقد شجعناها جميعاً، إلا أن العبء الأكبر في تعليمها كان على أخي ابراهيم. استطاعت أمي محو أميتها في القراءة والكتابة بسرعة استثنائية، وقد يكون ما سأقوله الآن محرجاً لها في حال قرأتْه، غير أن في داخلي الآن ما يدفعني إلى قوله حتى لو لم يكن هنا مكانه أو لا علاقه مباشرة له بسؤالك. في بداية الثمانينيات كنت مطلوباً ومتخفياً ولا أحد من أهلي يستطيع الوصول إلي سوى أمي. أحد المواعيد الحزبية حمل لي خبراً مفاده أن امرأة عجوزاً حضرت إلى الموعد وتطلب مقابلة الرفيق "سيف أبو المجد"، هكذا كان اسمي الحركي. كان حزبنا حينها تحت وطأة ضغط أمني شديد وحملة اعتقالات معممة في جميع أنحاء سوريا. أخذتُ أمي إلى بيت صديقي الموسيقي تركي مقداد الذي يسكن في مخيم فلسطين. تركت أمي عنده وعدت لمتابعة المواعيد مع مراسلي منطقيات حلب واللاذقية وحمص، وشؤون حملة الاعتقالات. بعد حين من الليل عدت لآخذ أمي إلى بيتي في منطقة "الربوة". لم يكن لدي في البيت ما يقيم الأود، فذهبت إلى حيّ "المزة" القريب لأجد جميع المحلات مغلقة بسبب عيد المولد النبوي. تذكّرت دكاناً صغيراً قرب المدينة الجامعة يتأخر صاحبه في إغلاق محله انتظاراً للطلبة الذين يعودون حوالي منتصف الليل. وجدت صاحب المحل يتهيأ لإغلاقه. رجوته أن يبيعني شيئاً آكله، فقال: لا بيع ولا شراء، ولكن لدي عشائي الذي أرسلته لي عائلتي، وأنا لا حاجة لي به كوني ذاهب إلى البيت، فآمل أن تقبله مني. كان ذلك هدية أثمن من قيمتها المادية بكثير. جهّزت أمور العشاء ودعوت أمي لنأكل. كنت قد صببت قدحاً صغيراً من العرق اعتدت أن آخذه قبل النوم لعلي أسترخي من توتّر ومخاطر أحداث النهار. لاحظتُ أن ملامح أمي تمتقع، فسألتها إن كانت مريضة فقالت أن لا، سألتها إن كان حدث شيء للأهل في حمص، فقالت أن لا. ما القصة إذن يا أمي؟ قالت: رائحة هذا الذي تشربه تكتم أنفاسي. شربت الكأس دفعة واحدة وأخذته إلى المطبخ فانفرجت أسارير أمي. لو قالت لي أمي منذ البداية: لا تشرب هذا الكأس، لأنه حرام أو لأنه كريه الرائحة، لما شربته. تلك هي حدود الرقابة الاجتماعية التي أتحدث عنها. مع ذلك وبدون ذلك فإن الشرق يحتاج إلى زمن طويل لكي يمحو الخطوط الحمر، ولكني لا أرى ضيراً من تخطيها بين موقف وآخر أو حين وآخر. الخطوط الحمراء على الصعيد الاجتماعي ليست مصمتة ولا عقائدية ولا متشنجة، يعني هي في إطار الوجدان أكثر مما هي في إطار الرقابة والقسر والقانون والقمع.

ما الصور التي عادت إليك عندما قرأت تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) عام 2017، حول ما جرى في "مسلخ الأسد البشري" في سجن صيدنايا؟
ج) حين نقلونا من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا في بداية شهر أيار 1992، استقبلَنا مدير السجن وألقى علينا محاضرة مقيتة لكثرة ما فيها من غباء وسذاجة. ملخّص المحاضرة: اسمعوني كيِّس شو بدّي قول. أنتو هلّق بسجن صيدنايا العسكري.. الأوّل (كان سعيداً وهو يقول الأوّل). عندي.. اللي بيجوع بطعميه.. اللي بيمرض بعالجو.. اللي بفكّر يهرب.. ترى حول السجن حقول ألغام، لكن قبل ما يطلع ويوصلها بقوّسو وبقول إنها محاولة هرب. كنا نظنّ أن الأمر للإرهاب النفسي، إلى أن سمعنا صوت انفجار، فتسلّقنا إلى النوافذ العالية وشاهدنا أن أحد العساكر من عناصر الحراسة مرّ على لغم أودى بحياته. رغم ذلك كان الانتقال من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا يعادل نصف إفراج. ولكنّ الرحرحة النسبية في صيدنايا قياساً إلى تدمر لم تلغِ أن تجهيزات السجن مهيّأة في أي لحظة لتحويله إلى مكان يزدري حتى جهنّم. لم أتعرَّض في سجن صيدنايا إلى عقوبات قاسية كما حصل مع رفيقنا الجميل الوادع إحسان عزو، حين أنزلوه إلى المنفردات في الطابق السفلي تحت الأرض، ومنعوا عنه أدوية مرض القلب فمات، أعني قتلوه. ولم أتعرض لعقوبات أصغر كعقوبة أخي ابراهيم الذي أمضى شهراً في تلك الزنازين، فعاد وكانت العباءة التي أعطاها له أحد الشباب، قبل نزوله إلى المنفردات، مهترئة كورق تشرَّب ماءً.

مع كل ذلك كان سجن صيدنايا في حينها ليس سيئاً كثيراً. على الأقل كان سجناً وليس مسلخاً. سجن صيدنايا بعد الثورة صار مسلخاً بشرياً كما قال تقرير الأمنستي. ولأني، كغيري من زملاء المحنة والتجربة، أعرف مداخل ومخارج وتفاصيل السجن، فقد صرت تلقائياً أعيد تخطيطات أجنحته وأماكن القتل والدفن المحتملة. لقد أحرق نظام الأسد حتى الذاكرة التي تقول إن انتقال المرء من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا يعادل نصف إفراج.

كان قدرك أن تخوض معركة في ظلام الزنزانة أولًا، والآن في أرض الغرب البارد. أسأل عن دور الشعراء والكتّاب والمثقّفين هناك وأيّ مساحة للتأثير من المنفى؟
ج) كلّ الزنازين التي مررت بها كانت أكثر برودة من أرض الغرب البارد، هذا إذا افترضنا أن الغرب بارد بالمعنى الروحي والوجداني الذي يفترضه سؤالك. في رأيي أن معيار البرودة ذو درجات متعددة. لي علاقات كثيرة مع سويديين لا ينقصها الدفء، لكن طرائق تعبيرهم عن الحميمية تختلف عن طرائقنا في الشرق. ثقافة الشرق تميل إلى المجاملة والمبالغة في اللطف والاهتمام الظاهري والشكلاني وعدم الصراحة أو عدم الوضوح. وخذ بعين الاعتبار أني جئت إلى السويد من سوريا التي، إن نحَّيت الأهل والأصدقاء والذكريات، لا أحمل لها أي ذكرى طيبة، وبالتالي ليس لدي خارج الأهل والأصدقاء والذكريات ما أحنّ إليه. ولكني أرى الحنين غير الاهتمام. فأنا مهتم بشعبنا ومصالحه ومستقبله بوصفه جزءاً مني كما أنا جزء منه. تعرضت للاعتقال خلال حياتي في سوريا ثلاث مرات، ولا أظنني أحنّ إلى ذلك إلا إن كنت مازوخياً. أما عن دور الكتاب والشعراء والمثقفين السوريين في المنفى، فما زال الرهان مبكّراً. مأساة العراقيين في الهروب من بطش صدام سبقت السوريين بثلاثة عقود على الأقل، ولذلك فإن الكتاب والفنانين والمثقفين العراقيين استطاعوا تأسيس وتنظيم حد أدنى من الفعل الثقافي والأدبي والفني في منافيهم. وعلينا كسوريين أن ننتظر سنوات حتى نرى دور المثقفين وتأثيرهم في المنفى. ولكن طاقات وإبداعات السوريين الفردية تملأ العالم، ولا تقصّر وسائل الإعلام في تسليط الضوء عليها. أي جردة بسيطة لعدد الجوائز المهمة أو الحضور المهم في السينما والرواية والشعر والموسيقا يعطينا الجواب.

برأيك، أيّ دور يلعبه الشعر في الظرف السوري الراهن؟ وهل عليه (الشعر) أن يكون سياسيًا في مكان ما، بمعنى أن يكون في قلب الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بنا؟
ج) مع أفول العصر العباسي أفل دور الشعر، كما أفل دور الثقافة والسياسة، وصار الاقتصاد استهلاكاً لا إنتاجاً. باختصار بدأ الانحطاط منذ ذلك الحين، فانتهت أو تراجعت كل الظواهر والمظاهر القابلة للاحترام على المستوى العام، ولم ينجُ من ذلك إلا تجارب فردية قليلة بين فترة وأخرى لأسباب ليس هنا مجال بحثها. ليس بمقدور الشاعر أو شعره أن يقرر لنفسه دوراً سياسياً أو اجتماعياً. ذلك مشروط بظروف وتداخلات عديدة، ولكني عموماً لا أميل إلى تحميل الآداب والفنون أي دور فاعل ومؤثر في تناول أعباء الناس إن لم يلقِ الناس عباءاتهم وآمالهم عليه. كنتُ وما زلتُ ضد الأسد ومع خيارات أغلبية الناس. هذا موقفي السياسي. أما شعري فله شؤونه المتعددة، والثورة أحد هذه الشؤون. لكن على مقلب آخر أين يمكن أن نجد أدباً أو فناً أو اقتصاداً أو رياضة أو غير ذلك مما يمكن تنزيهه عن السياسة؟

أليس الخبز سياسة، وكذلك الوردة والسكين والكفر والإيمان والرياضة والغناء والسينما والمسرح وبائعات الهوى والجوع والتجارات القومية والدينية والمنفلوطي وعادل إمام وما شئت من هذه الحالات والاحتمالات والأنساق؟

إلى أيّ مدى يمكن للشعر أن يتجاوز سيول الدم ويقترح إبداعه في مواجهة المستبد السياسي والديني؟ وكيف ترى الشعر السوري اليوم بعد تسع سنوات من هذه المقتلة؟ ومن قبل ما مدى تأثير الثورة على تجربتك الشعرية؟
ج) قد يكون الشعر تاريخياً وبطبيعته أقرب ترجيعاً من الرواية، ومع ذلك ليس الشعر إلا شعراً، وفي هذه الأيام، وما تحفزه من "مكارم" الفقر والجهل والخوف والربح مهما تكسّرت الأوزان والقيم، لم يعد الشعر إلا نخبوياً.

في ظروف الاحتقانات والأزمات والثورات، تصبح الصورة والأغنية والفيلم والمؤثرات الصوتية أقرب متناولاً وأكثر تأثيراً من القصيدة. لم يتجاوز عدد القراء لأيٍّ من قصائدي ثلاثة آلاف قارئ، في حين أن تسجيل أغنية من تأليفي أو فيلم وثائقي أو فيديو لحديث لي يبلغ عدد متابعيه عشرات الآلاف. الأمر هنا ليس موضوعياً فقط. هناك مستوً ذاتي له تأثيره إن استطاع أو قرّر الفعل. ولكن للأسف حتى الآن ليس لدى السوريين الذين هم مع الحرية حوامل سياسية وثقافية تليق بهم.

أما تأثير الثورة على تجربتي الشعرية فأترك للنقاد تقييم الأمر إن وجدوا ما يقتضي التقييم. ما أعرفه وحدث في حياتي فعلاً قبل شعري أني واحد من مئات أو آلاف السوريين الذين بدؤوا ثورتهم منذ سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وحتى مطالع القرن الواحد والعشرين، وقد انهزمنا بجميع تشكيلاتنا السياسة والاجتماعية. قاموسي الشعري في ما يخص الثورة قديم، وحين جاءت الثورة في آذار 2011 صار قاموسي الشعري مفهوماً أكثر ومن شرائح أوسع.

ذلك لا يعني أن الثورة قصّرت أو تأخرت، بل أنا من كان متسرّعاً وبصلته محروقة.

ما هي قراءتك لتأثير الحراك الثوري على المشهد الأدبي والثقافي السوري؟
ج) تأثيرات الثورة أو الانتفاضة، أو الحراك الثوري كما سمّيتَه، ليست متساوقة على جميع الصعد. التأثيرات على صعيد السينما والرسم والموسيقى والغناء كانت واضحة على المستوى الإبداعي والجمالي، بل إنها برزت وتفوّقت في كثير من المهرجانات العالمية. الشعر كان متبايناً حسب الشعراء. الرواية تحتاج وقتاً أطول وإن كان هناك روايات نجحت في مهمتها في عرض بعض جوانب الثورة، ولا بد مع الزمن أن تتواصل وتتكامل سلاسل الروايات لتغطي ما حدث بالصورة الملائمة.. لدينا روائيون سوريون عظماء تنقصهم الفرص ولا ينقصهم الإبداع، وبالطبع لدينا مثلهم شعراء ورسامين ومخرجين وموسيقيين. هي قناعتي وليست انحيازاً أعمى لسوريا، فأنا في الأصل لست وطنياً متعصباً، بل إني متنازل حتى عن جنسيتي السورية إلى أن يسقط الأسد، وبعدها أعرف أني سأستردها حرة وكريمة.

الثورة السوريّة شكلت مفترق طرق سياسيًا وثقافيًا وحياتيًا، كيف تقيم الثورة اليوم وقد دخلت عامها العاشر، وما هو تصورك لمستقبل سوريا بعد أن مزقتها حروب المستبدين وأصحاب الرايات السوداء؟ ما هو الحلّ لتعود البلد كما نتمناها جميعًا؟
ج) أرى أن أهم ما أنجزته الثورة السورية، رغم كل ما تعرّضت له من خسائر وضحايا وفواجع وخذلان متعدد المستويات داخلياً وعربياً وعالمياً، هو إغلاق مرحلة "الأبد" بالنسبة لنظام الأسد. صحيح أن العالم تواطأ كثيراً ضد الشعب السوري، وصمتَ على الكثير من أخطر جرائم الأسد، ولكن لم يعد في وسع روسيا ولا أمريكا وإسرائيل وإيران تسويق "أبدية" الأسد، فالأبدية صارت عملة منهارة واقتصاداً منهاراً ووباء سيصيب بعدواه كل من يقف مع الأسد. مع دخول ذكرى الثورة عامها العاشر صار الأسد عبئاً على الجميع. تضحيات الشعوب وضحاياها على مرّ التاريخ فظيعة وفادحة، ولكني لم أرَ ولم أقرأ ولم أسمع عما هو أكثر فظاعة وفداحة مما تعرّض له الشعب السوري. منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن لم يحدث أن تواجدت قاعدة أمريكية إلى جانب قاعدة روسية في العالم باستثناء سوريا. لقد طبَّل الإعلام الأوروبي والأمريكي كثيراً بقصة الحرب الأهلية في سوريا. قواعد عسكرية على الأراضي السورية لإيران وأتباعها من حزب حسن نصر الله وأشباهه من الميليشيات الشيعية المتعددة، وقواعد عسكرية ومطارات على الأراضي السورية لأمريكا وروسيا، وأجواء مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي، وقواعد تركية أخيراً. هذه الحرب العالمية المصغَّرة، وإن شئتم الحرب بالوكالة، اسمها في الإعلام العالمي حرب أهلية!

كان المطلوب من الأمم المتحدة تضييع الوقت أو اللعب بالوقت الضائع، فأتحفتنا بموفدها كوفي عنان ثم الأخضر الإبراهيمي ثم ديمستورا ثم غير بيدرسن، ولا نعرف مَن التالي.

في السنة الأولى من الثورة لم نكن نرى رايات سوداء أو فصائل إسلامية. كان الشباب والصبايا والتنسيقيات حالة حضارية لم تبلغها الثورة الفرنسية التي ما زال العالم يتغنّى بها. اعتقالات النظام في السنة الأولى للثورة كانت متركّزة على الوطنيين الأحرار والديموقراطيين والعلمانيين والصف الأول من قيادات التنسيقيات، وكان العالم يعرف ويصمت. حتى عندما انشق قيصر، وقدَّم ما عنده من صور ووثائق عن المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون الأسد، بقي العالم صامتاً رغم كل تلك الفظائع والوقائع التي بين يدية. بعد سنوات تبنّت الإدارة الأمريكية قراراً باسم قيصر "سيزر" سيطال بالعقوبات كل من يدعم نظام الأسد.

في الوقت الذي كان الأسد يعتقل العلمانيين والديموقراطيين والوطنيين الأحرار، كان يطلق سراح المعتقلين الإسلاميين المتطرفين. أطلق سراح الجولاني ليشكل جبهة النصرة، وأطلق زهران علوش ليشكل جيش الإسلام مع لواءين كان قائداهما معتقلَين في سجون الأسد. لكن بعد تهجير نصف الشعب السوري ضاقت أوروبا ذرعاً باللاجئين السوريين، وصار اللاجئون ورقة ضغط تلعب بها تركيا وغيرها لإرباك أوروبا والعالم، وصارت كلفة إعادة الإعمار مجال صراع دولي من أجل الربح وليس المسؤولية، إضافة إلى أن روسيا وإيران أُرهِقَتا ووهنتا في الدفاع عن مسخهما الأسد. كل هذه المآسي والضحايا على ما فيها من أوج فداحات، تبقى أقل وطأة من بقاء الأسد إلى الأبد، لأنه كان هو وسلالته سيعتقلون ويهجِّرون ويقتلون مع الزمن أكثر بكثير مما فعلوا. وضع السوريين يبدو الآن محبَطاً، غير أن كل شيء سيختلف بعد لحظة إعلان انتهاء الأسد. ألمانيا واليابان تعرضتا إلى دمار هائل في الحرب العالمية الثانية، وها هما الآن في طليعة بلدان العالم. ليس الشعب السوري أقل منهما وفي تاريخه ما يشهد على ذلك.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök