Hoppa till huvudinnehåll

قبل أن تصدق كل ما يقال عن الأمل

المعتصم خلف كاتب فلسطيني سوري، يقيم في لبنان، يكتب المقال ويدرب في مجال الكتابة الإبداعية، صدرت له كتاب "أقرب من البعد بقليل"

Credits مقال: المعتصم خلف 26 maj 2023

إننا نرى مجريات العالم، وغالباً ما نقف عاجزين أمام تفسير ما يحدث، لربما وصلنا إلى اللحظة التي أدركنا فيها أننا لا نريد تفسير العالم، بل تجاوزه فقط، وهذا التجاوز عليه أن يقودنا بشيء من الأمل نحو الأمان، هذا هو أملنا الكبير في مكان هش مثل العالم؛ أن نستعيد أنفسنا أمام فوضى ما يحدث، وأن ندرك ولو للحظة واحدة أن أملنا الشخصي فيه شيء من الحقيقة، ولا يمكن إلا أن نصدقه، لذلك غالباً ما تكون الوصية الأخيرة لكل الذين رحلوا عن هذه الحياة هو أن يكون لدينا أملٌ يفوق هشاشة العالم، وأن نصدق هذا الأمل وكأنه طريقنا الوحيد للاستمرار، لربما أملنا الشخصي والجماعي يولد من هذه العلاقة، التي ينضج فيها الأمل وكأنه سبيلنا لكي نتجاوز أنفسنا، ونستعيد ولو شيئاً بسيطاً من طمأنينة فكرة أن كل هذا سوف ينتهي يوماً ما، قد يبدو هذا أملاً ساذجاً للوهلة الأولى، ولكن بطريقة ما صرنا ننتمي للاحتمالات الكثيرة التي يتركها الأمل وراءه، ونحن نبحث عن الأثر الذي يمكن خلاله تجاوز الأخبار السيئة وما يرافقها من عجز محبط، كون العالم صار غير قابلاً للقسمة، ولا يتسع لنا جميعاً كما يخبرنا المحللون السياسيون والعسكريون بفجاجة على شاشات التلفاز.

أن أبدأ بالكتابة عن فكرة كبيرة مثل أملنا الكبير كبشر بعالم أفضل، ما هي إلا محاولة لأقول أن حياتنا أضيق من أن نصدق كل ما يحدث من حولنا، وفي حال تصديقه ندّعي بتأنٍ أن ما نبحث على تصديقه عندما تكون سائر الأفعال عديمة الجدوى، هو اختراع أمل جديد، لا ليكون حلاً، بل مخرجاً مؤقتاً يتطلب منا الاعتراف بأننا عاجزون، لذلك نحن مصابون بالأمل ليس لأننا متفائلون، بل لأن صمت العجز فتاك، بينما احتمالات الأمل المفتوحة تضعنا أمام خيارات واهنة من الحلم، ونحن غالباً ما نحتاج إلى شيء ما نصدقه دون خوف، وغالباً سيكون هذا الشيء هو الأمل ذاته الذي سوف يصيبنا بعد سنوات، لأن نقيض الأمل لا يكون اليأس دائماً، بل في أحياناً كثيرة يكون النسيان، لهذا غالباً يجب أن لا ننسى أن نحلم، لأن الأمل الذي تتركه لنا الأحلام، حتى في أكثر أحلامنا سذاجة، قد يبدو مقبولاً أمام هذا الواقع.

ضمن احتمالات كثيرة من التأويل، قد يبدو مضحكاً أن يكتب كاتب فلسطيني سوري يعيش في بيروت عن الأمل، إن أسوأ كوابيس قيلولة ما بعد الغداء لن تجمع كل هذا التشاؤم في شخص واحد، يريد أن يرصد كل ما يعرفه عن الأمل، في منطقة يعتبر فيها الأمل نكتة ساذجة، حيث البراءة انتهت عندما أدركنا بعد مراحل كثيرة من محاولات التغيير أننا نعيش مرحلة ما بعد اليأس، حيث أستعيد بوضوح مربك كيف يفقد الإنسان منا تدريجياً شعوره بكينونته الشخصية، وينساق بوهن مفزع نحو شعور كثيف بأنه جزء من قطيع كبير عليه أن يستسلم لنتائجه، بينما حسابات عدم الاستسلام قد تكون باهظة جداً، إننا معفيون بصورة غريبة من لحظة حقيقة واحدة، لذلك تحديداً تبدو الكتابة عن الأمل مضحكة، ليس لأننا فقدنا شعورنا بأنفسنا، بل لأن الأمل بدون الحقيقة التي تساعدنا على الاعتراف بمن نكون وماذا نحن يسقط أمامنا كجثة هامدة لطالما تسابقنا على إنعاشها، وهكذا صارت النجاة الفردية الخالصة هي الأمل الوحيد المتبقي، لا وقت لدينا للالتفات للخلف، ولا انتظار ما قد يحدث في المستقبل. لقد مدّدت السلطة الحاضر إلى لحظة أبدية واحدة، البطل فيها هو من يتجرد من أمل الآخرين، ويهرب راكضاً بعيداً بأقدام متورمة نحو أمله الشخصي، لن يصل الجميع بالتأكيد، مع أن كل الذين هربوا، صدقوا ولو للحظة واحدة، أن البطولة كثيراً ما تنطوي على شعور قوي بالخجل والتخلي، وأن الأمل بكل احتمالاته يعني شيئاً واحداً لنا؛ الاستسلام لجميع الخيارات، حتى تلك التي ترتسم أمامنا بكثير من الخوف والوحشة، لذلك نحن صالحون للجحيم، مع أن كلمة الجحيم تبدو قاسية، ولكن لا يوجد ما هو أشد قسوة من أن تستسلم لأملك، وفي واقع الأمر لن يكون هناك أحد صالح للجحيم أكثر منا، لأننا اختبرنا في لحظات كثيرة ماذا يعني أن تموت يومياً دون أن تنتظر من نفسك أو من العالم شيئاً، وهذا تحديداً أحد المعاني الكبيرة للأمل، هو أن تنسى ما الذي كنت تنتظره تحديداً!

الحقيقة أن هذا الومضات الصغيرة من الأمل، التي تنكمش تدريجياً وتتفتت مع الوقت إلى أحزان صغيرة، هي حياتنا كلها، ليس لأننا متفائلون أو متشائمون، بل لأننا ببساطة قررنا بعفوية أن لا نصدق كل ما يمليه علينا العالم، وهذا تحديداً لا يحتاج إلى القوة، بل إلى الانتباه، وكأننا عازمون بفضول أن لا نصدق قناعاتنا الزائفة عن أنفسنا وعن حياتنا، لنبحث من جديد عن احتمالات غير متوقعة يمكنها أن تشكل ذواتنا من جديد. لربما هذا هو انتصارنا الوحيد، أن نتحرر من سطوة الدور الذي تحدده لنا السلطة، ونملك القدرة على التمييز بين وطأة عجزنا ويقيننا الحقيقي بأننا موجودون، مع أن كل هذا قد يبدو أملاً زائفاً، ولكنه حتى في زيفه يؤمن في كثير من الأحيان احتراماً متماسكاً للذات، كونك ولو بكثير من الريبة، تملك أملاً مثقوب النهاية، لا يؤدي إلى أي هدف، ولكنك تسعى من خلاله، لاستعادة شعورك بالقيمة الحقيقة التي تشكلها حياتك.

قبل سنوات من رحيله، تذمّر الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو من اتهامات التشاؤم التي كانت تصف كتاباته وحياته، ولم يكن غريباً للحظة أن يقول في لقاء صحفي مع الصحفية اللبنانية "جمانة حداد" نشرته في كتاب "صحبة لصوص النار" الصادر عن دار النهار عام 2006: "يقولون يالَك من إنسان متشائم يا خوسيه ساراماغو، فأجيبهم: لا بل عالمنا هو المشؤوم، في أي حال أرى أن التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، وأن التفاؤل شكل من أشكال الغباء، أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه، ينم إما عن انعدام إحساس أو عن بلاهة فظيعة". إن هذا الربط بين التفاؤل والبلاهة يتركنا دائماً أمام أسئلة جدوى الأمل، كأن على الشيء الذي يحركنا أن يضيف الكثير من الجرأة الأخلاقية لمحاكمة أنفسنا، بيد أن دلالة الأمل التي استولت على تفكيري وأنا أقرأ هذه الكلمات، هي أننا كجيل تجاوزنا تشاؤم خوسيه ساراماغو، وصرنا نكتب لا لنَصِف العالم أو نغيّره، بل لنحرر ذواتنا منه، وهذه النتيجة انطلت على الكثير من الجرأة، ولو كان في تصورنا أن التشاؤم هو عكس التفاؤل لكانت انتهت خياراتنا في ممرات ضيقة غالباً ما تحجب الضوء عن التصور الأوسع الذي نسعى إليه، وهو الأمل الذي يكون معادلاً للرفض، ليس رفض ما يحدث في العالم فقط، بل حتى رفض احتمالات أن نكون شركاء معه فيما يحدث، لذلك غالباً ما يكون أملنا بلا توقعات، لأن حياتنا اليومية صارت أبعد من أن تنصت لاختياراتنا.

بالنسبة لي، أن تكبر في عائلة كانت تصدق أملها أكثر من اللازم، علمتني بشيء من الحرص أن علي أن أؤمن بكل الإشارات المقتضبة التي يتركها الأمل وراءه، حتى في أضيق الأماكن وأصغرها، وهذا لا ينطوي على الكثير من الخيبة، بل على شيء من الغفران، الغفران لنفسي وللآخرين عن كل الآمال التي امتلكتها يوماً ما دون أن تتحقق، ورغم كل هذا يمكنني أن أقول بجرأة أنني لست متشائماً تماماً بل أملك نوعاً محدداً من الأمل، وهو الأمل الذي نهبه لأنفسنا عندما ندرك فجأة أن العالم ما زال يحتمل محاولة أخيرة لنقول ما نريد، حتى لو كان غير ضروري أو مهم، لكنه يعبر بصورة ما عن ما نحلم به، وهذه المحاولة من الأحلام التي يزرعها بداخلي الأمل، كثيراً ما تتركني أمام أبواب مفتوحة من التجربة، مع أنني كثيراً ما أشعر أنني أخرج من كهف بدائي، وأخطو بحذر خطواتي الأولى نحو عالم بلا ظلال، لا أثر به لشيء، سوى أصوات مبحوحة تحاول أن تستعيد قدرتها على النطق، ولكن التجربة وحدها هي من تستوعب كل فضولنا تجاه الأمل، في واقع لا يكترث لأبسط محاولاتنا براءة، ولربما هذه أكثر تصورات الأمل مرواغة، الأمل الذي نخفيه جيداً حتى عن أعز أصدقائنا، ونرويه بخجل بيننا وبين أنفسنا، وكأنه رسالة تطمين أخيرة لمركب لم يصل نحو وجهته بعد، ونختبر من خلاله شفافية الكلمات التي لم نجرؤ بعد على الصراخ بها، لعل هذه طريقة أخرى لنقول أننا موجودون، وأننا نخطو بعيون معصوبة نحو ما لا نعرف، وأن قفزات الأمل هذه وهبوطها هي دليلنا الأخير على أن العتمة التي نغرق بها لم تكن يوماً من خيارنا.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Ge en gåva på Patreon
Fler sätt att engagera sig

Sök