Skip to main content

من باحث عن كتاب أسباب إلى من يمتلك منها مكتبة

عندما جئنا إلى الصحافة وجدنا يعرب العيسى (ولد في بادية حماة عام 1969) بانتظارنا. أخذَنَا من الضياع في الطرقات إلى البيت، إلى الصحيفة، وهناك رعانا بحنان أبٍ وحزم معلّمٍ. ثم تركنا نفعل ما نشاء.

لم يكن ما فعله مع أبناء جيلي استثناءً، بل هو ما يفعله مع كل الأجيال، حتى أكاد أقول إنّ في كل الصحافيين الذين عرفتهم سوريا منذ عشرين سنة شيئًا من يعرب.

صنع صحفًا ومجلات كثيرة على مدار سنوات عمله. صحيح أنها كانت تُغلق على الدوام لأسباب رقابية، لكنها أصرّت على شيئين: جودة المحتوى التي يحترمها حتى الخصوم، وعدم التنازل عن النقد مهما بلغ الثمن.

مأساة هذا الرجل اليوم أنه يعيش في بلد لم تمت فيه الصحافة وحسب، إنما ماتت الحياة كلها، فالأصدقاء رحلوا، والباقون غارقون في مآسي المعيشة اليومية التي باتت أقرب إلى المستحيل، ولكي لا يصمت كتب روايته الرائعة "المئذنة البيضاء" متحديًّا فيها كل ذلك الموت، خصوصًا موت مهنته العزيزة، عبر نصّ مليء بالمعرفة والإشراق الروحيّ، والأكثر من ذلك؛ وضعَ فيه خلاصات خبرته الاقتصادية والسياسية كصحافي قرأ وراقب، وكمواطن عاش وذاق مرارة إدارة شؤون بلدان المشرق العربي، ولهذا تحلو لي قراءة الرواية أيضًا بوصفها أطولَ مقالٍ يكتبه في حياته.

لا شيء يقال سوى أن عالمًا فيه بشرٌ أولًا، وكتّاب وصحافيون ثانيًا، من أمثال يعرب العيسى هو عالم ممكن الاحتمال.

رائد وحش: شاعر، صحفي و ناقد ادبي فلسطيني من سوريا يسكن في هامبورج.

Credits مقال: يعرب العيسى  مقدمة: رائد وحش May 05 2021

"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"

عثرت على الجملة بالصدفة، وجدتها بين مختارات من نيتشه. توقفت طويلاً أمامها. راجعت نفسي كما سيفعل أي قارئٍ بالعربية طَرِبَ مراراً لمحمود درويش (أبهى شعراء العربية في عصرنا) وهو يقرأها بصوته الجميل كعنوانٍ لواحدةٍ من أشهر قصائده.

قلت لنفسي: هكذا إذا؟ سرقها من نيتشه؟ كما سيقول أي قارئ بالعربية للوهلة الأولى. ثم علمتني الحياة أن درويش حين أخذ الجملة لم يسرقها، بل فعل ما هو أشنع بكثير: فهمها.

وضعها عنواناً لقصيدته. ثم صنع نسخته الخاصة من فهم الجملة، وترك لنا قائمته التي تتضمن أشياء من قبيل: "قهوة الأمّهات، رائحة الخبز في الفجر، خوف الغزاة من الذكريات، خوف الطغاة من الأغنيات، أول الحب، قصائد سوفوكليس، تردّد إبريل، ونساء يدخلن الأربعين بكامل مشمشهن..."

فهمت يومها أن على كل واحد منّا أن يصنع نسخته الخاصة من تلك الجملة، وأن على كل إنسان في هذا العالم حين يتعلم القراءة والكتابة أن يأتي بورقة (يصحّ ملف وورد أو تطبيق ملاحظات الآيفون أو الأندرويد) ويكتب في رأسها:

"على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

يطوي الورقة ويضعها في جيبه، وكلما رأى أو تذوق أو عرف أو اختبر أو شمّ أو سمع أو لمس أو عانقَ شيئاً يستحق، فليضعه على تلك القائمة، وليحتفظ بهذه الورقة ويجدد نسختها كلما اهترأت.

وحين يموت، يجب أن يفرض القانون على أهله تسليم هويته الشخصية إلى دائرة الأحوال المدنية، وتسليم نسخته من "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" إلى المكتب الوطني لأسباب الحياة.

نسيت أن أقترح قراراً من الجمعية العمومية للأمم المتحدة (أو أياً كان اسمها)، مشفوعاً بقرار من مجلس الأمن الدولي تحت البند السابع يلزم كل دول العالم بإحداث مكاتب وطنية لأسباب الحياة. وتحدّد مهمة موظفيه بجمع ومراجعة قوائم جميع المواطنين، حين تنتهي حياتهم موتاً أو فقدانَ أحبة. يشطبون المكرر منها. يحذفون الأوراق البيضاء أو المخالفة للعنوان. ثم يرسلون قوائم جماعية دورية إلى المكتب العالمي لـ "أسباب الحياة على هذه الأرض" وهو مكتب يدير الكوكب بكامله، ويحاول التوفيق والتلفيق، وانتقاء أكثر الأسباب إفحاماً، ويعممها ويروجها، ويجعل منها ثقافة عالمية معاصرة، يزينها ببعض البهجة، ويبالغ في الاحتفاء بها، ويصنع منها خطة عالمية لردع نوعنا البشري عن الانقراض، وتمييع أسئلته الوجودية الكبرى، وإشغاله بالسعادات الصغيرة عن البحث في المعنى والجدوى ومآلات المصير.

جيلاً بعد جيل سيصبح لدينا قائمة نهائية أو شبه نهائية بما يستحق العيش على هذه الأرض، وبذلك سنتخلص من بعض أسئلتنا، معظم حقائقنا، سنخفف بعض آلامنا.

قبل سنوات طويلة أحببت امرأة. أحضرت نصف مترٍ من اللاصق الشفّاف. أخرجت قائمتي الخاصة. أضفت ستة أشياء تتعلق بها وضعت اللاصق على نسختي، لأني لم أعد أريد أن أعرف أو أكتشف أو أتذوق شيئاً سواها، لم أعد أريد المزيد. جعلتها أسبابي كلَّها.

ظلت قائمتي مغلقة لسنوات، كل ما يستحق الحياة بالنسبة لي كان دوراناً في المكان، تكراراً لأسباب سابقة، استعادةً لأغانٍ موجودة أصلاً على قائمتي لكن هذه المرة بصحبتها، إعادة وصفات الطعام بمشاركتها، قراءة قصائد جميلة لكن في أذنها، تكرار زيارة الأماكن ذاتها برفقتها.

أصلاً كان البند قبل الأخير في قائمة روحي المغلّفة: "إعادة كل ما سبق معها"، والبند الأخير تضمّن لذّتي الأخيرة، سببي النهائي الذي أردته دونها: "نظرتي الأخيرة إلى هذا العالم كانت دمعتُها تبكيني".

فيما بعد، وكما يفعل الجميع بالجميع، بذلت تلك المرأة كل ما تستطيع لتحررني من ذلك الأسر، استخدمت أقصى ما يمكن أن تفعله روح بشرية من شرور لتعتقني، ساعدتني على تجاوزها دون رحمة، هشّمت عظامي بالمطرقة، حصّنتني من الشعور بالألم ثانيةً.

خلال محاولاتي للشفاء كنت أحاول أن أستعيد أسباب الحياة السابقة، كنت أستمع للأغاني وحيداً، أعيد قراءة الكتب التي أبهرتني، أتنادم مع أصدقائي القدامى وقد أصبحنا جميعاً عجائز وهرمين وبدأنا بالموت تباعاً. حاولت أن أستعيد قدرتي على رؤية مواطن الجمال في الكتب والشوارع والغيوم والنساء والأشجار. ببساطة كنت أحاول أن أنزع اللاصق الشفّاف عن قائمتي وأستأنف مهمتي كإنسان عبر في هذا العالم ذات مرّة، ولديه أسباب للحياة.

لم أنجح. بالطبع لم أنجح. وتباً لي لو نجحت. فحين وضعت ذلك اللاصق لم اكن أضعه على ورقتي، بل على روحي. روحي التي لم تعد قادرة على اختبار المزيد، ولا تذوق الجديد. وكم هو مؤلم نزع اللاصق عن الروح؟ وكم يشوّه من بقاياها لو تمّ بقسوة؟ أغلقت تلك المرأة روحي ثم رحلت، وأخذت معها المفتاح والمشرط العريض الذي ينزع اللاصق عن الأوراق والأرواح على السواء، وكذلك مفكات البراغي وأقلام التلوين ومشغّل الأقراص ونظّارة القراءة، وحليمات التذوق، وهرمونات الغدد، وآهات الطرب.

تجاوزت الخمسين بقليل، وأنا الآن رجل بلا أسباب. ولدي إحصائياً ـ بحسب منظمة الصحة العالمية ـ فرصة للعيش اثنين وعشرين عاماً إضافية، لكنّي غير قادر على عيشها دون أسباب، وغير قادر على فكّ اللاصق عن قائمة أسبابي، وعاجز عن بدء قائمة جديدة.

فكّرت أن أقصى ما يمكنني فعله هو اللجوء لنسخ الآخرين. أن أستعين بأرواح لم تمزقّها نهايات الحب، ولم تأسرها بداياته عند عقدة الإيمان بأبدية الأشياء المؤقتة. بأولئك المحظوظين اللذين لم يحبوا ـ إلى الأبد ـ من يستطيع التخلي عنهم في بداية كلّ خريف.

هل بدوت لوهلةٍ إنساناً طبيعياً يخاطب بشراً طبيعيين؟ انطلى ذلك عليكم. أعرف أنكم تحبون الاستماع للعشّاق المهجورين المعذبين، بل وتظنون شكسبير وديستويفسكي أعظم الكتّاب في تاريخ نوعكم، لأنهم زودوا عواطفكم بكل ذلك الكمّ من المآسي، تعالوا إذاً أخبركم الحقيقة.

أكتب لكم من قاع العالم. من المكان الذي تحتاج فيه أن تكون ببراعة مرمّم آثار، وبسذاجة صياد كنوز، ورقّة صائم، وعناد تيس، كي تعثر على سبب للاستمرار بالحياة.

وكي لا أبدو شحاذاً كسولاً، وعالة على أسباب الآخرين، فقد بذلت كل ما أستطيع، ولم أترك باباً لم أطرقه، نقّبت في كل الأسباب الممكنة، في كل تلك التي أعرفها نظرياً، أنزلتها على خارطة الحياة ـ حياتي تحديداً ـ محاولاً بكل إخلاص أن أجد واحداً فقط، بدأت بتلك الصغيرة مثل الاستماع لأغنية من زمن جميل، عثرت عليها، ولكني وجدتها مرفوعة على تطبيق يعطيني الرسالة ذاتها دوماً "ربما فقدت الاتصال بالانترنت، أو أن هذه الخدمة غير متاحة في بلدك". أجل أجل هذه الخدمة غير متاحة في بلدي، ولماذا ستكون متاحة؟ ماذا سيفعل بأغنية عن الحب أولئك الذين يكرهون؟

استعرضت شؤون الحياة البسيطة: الأشجار الجميلة؟ قطعوها. العصافير؟ أخافتها أصوات الحرب فنفرَت. بيت العائلة الدافئ؟ بيوتنا باردة. رشّة الفلفل الأسود فوق طبق من الكمأة؟ جامعو الكمأة انفجرت بهم الألغام، والفلفل أيضاً فَقَدَ نكهته ولذعته في الحرب. ذكريات الطفولة؟ عرفنا أنها كانت زائفة.

حاولت بقائمة محمود درويش: رائحة الخبز في الفجر؟ عند الفجر سيكون طابور انتظار الخبز طويلاً جداً، ولن تصل رائحة المخبز لهذه المسافة. ما أقبح إبريل وهو يستمر بالتردّد إلى الأرض ذاتها، الحياة ذاتها. تردّد ابريل؟ ما أقبح طقس إبريل الذي يدفعك للقول: هذا الجو جميل ينقصه فقط أن نكون أحياء، لنحتفي به كما يليق.

قهوة الامهات؟ أمهاتنا يبكين أخوتنا القتلى طوال الوقت، ولا طاقة لديهن لصنع القهوة لمن تبقى. نساء الأربعين المضيئات؟ لم يعدن كذلك، غضّنت الحرب وجناتهن، وهدّل الفقْدُ أثدائَهنّ، وجفف الحزن أرحامَهن. الغزاة يبقرون بطون الذكريات ويقهقهون، والطغاة يحتلون الأغنيات ويجعلونها تدور حول أمجادهم.

الحب؟ ابتعدوا عن طريقي. أعيش في أرض قال عنها لورنس يوم رآها أول مرة "تباً لها ما أقبحها، إنها لا تصلح سوى لظهور الأنبياء." نقتل بعضنا منذ عشر سنوات ولن نتوقف لأننا لا نعرف حقيقة، ما الذي نريده ثمناً لهذا الدم. نقتل بعضنا لأننا نريد فقط تفريغ شحنة الكراهية التي نخزنها منذ زمن طويل. جرى الأمر ببساطة، دقينا طبول الحرب، أعطينا بندقية للكراهية ودبابة للخوف ووقفنا على خط التماس بينهما.

الأسئلة؟ لطالما كنت أعتقد أن الأسئلة التي يولدّها الفضول، جزرة رائعة تشدنا في الحياة خطوة تلو خطوة، وأن لبعض الأسئلة قدرة سحرية على إبقائنا مربوطين بحجر الطاحون لزمن أطول، فمن غير المعقول أن نموت قبل أن نعثر على إجابات لها. ولكني بكل بساطة حظيت بقدر طيب، حيث ولدت في بلاد خالية من الاسئلة، بلاد لم تطرح سؤالاً صحيحاً منذ قرون، لأنها غير مكترثة لفهم نفسها، ولا لفهم ما يجري عليها.

الأمل؟ إنه سبب عظيم للحياة، لكنّه للأسف يقع في المستقبل، وأنا أعيش في بلاد تملك الكثير من الماضي، وتظن أنها لم تعد تريد المزيد، بلاد تشعر أنها تملك بضعة آلاف من السنين فلماذا ستحتاج ان تفكر بعشرين أو ثلاثين واحدة من المستقبل؟ ولماذا ستظن أنها بحاجة لتعرف أي شيء جديد عن نفسها أو عن العالم؟ لا بد أنكم تعرفون ذلك العجوز الذي لا يتوقف عن تقديم الإجابات على كل شيء لمجرد أنّه كان جالساً في قبو منزله يوم قامت الحرب العالمية الثانية. تعرفون واحداً أو اثنين على الأقل؟ انا أعرف بلاداً تشبهه، بل وعشت حياتي كلها فيها.

تشعر نفسها عتيقة لدرجة تغنيها عن أي شيء آخر. ولا يمكن أن تصدّق أنّها مجرد جرة نبيذ رديء، لكن صدف أن أحداً ما نسيها في قبو لزمن طويل. وبالطبع فإن البلاد الخالية من الأسئلة. ستكون خالية من الضحك. فحيث تسكن الإجابات النهائية تلحق بها الجلافة تلقائياً وتسكن معها، شخصياً لم أضحك منذ أربع أو خمس سنوات، حتى صارت لدي قناعة أن هذا العالم لا بدّ أن يكون جحيم عالم آخر. وإلا فما الذي نفعله هنا؟ ولماذا نملك ذكريات غائمة عن عالم آخر يحتوي على أشياء أخرى تصلح لتكون أسباباً للعيش؟ عالم فيه خريف وربيع وغيوم وأشجار، وشابات تضيء عيونهن حين يتلقين رسائل الحب، وتنشب فيه معارك كبيرة بين زوجين شابين يضعان أمامهما صورة إيكو لجنين في الأسبوع السادس عشر، ولم يتوصلا لاتفاق نهائي حول الاسم الذي سيطلقانه عليه، عالم يمكن أن ينقسم فيه البشر على ناديين لكرة القدم، فرقتين موسيقيتين، على قطع اللحم أو شرائح الخضار.

لا بدّ أننا كنا في عالم خيالي كهذا ذات يوم، لا بد أن ذاكرة جيناتنا تحمل البعض منه، أو أخبرتنا عنه الكتب المقدسة بشكل إيحاءات مبهمة، أو هو مجرد حلم عميق نتوهم أنه موجود بالفعل لكثرة ما يتردد إلى نومنا.

تحضرني مئات المرّات كل يوم جملة لكاتبكم المفضّل شكسبير: "من بين كل الانفعالات، فالخوف أكثرها لعنةً" أراهن أنكم لم تعودوا تعرفونها، وأراهن أن بعضكم سيظنني اخترعتها. تجرأت على الرهان لأنكم لستم بحاجة لها، ولم يعد بإمكان عقولكم فهمها. فأنتم لا تخافون سوى الموت. وأنا أكتب لكم من حيث نخاف الحياة.

استحضرت الأفكار والناس الطيبين الذين أعرفهم لعلي أحظى بشيء أو بأحد أعيش لأجله. فتذكرت أنني كنت هنا في الأسبوع الأول للحرب، وشهدت بنفسي سقوط أول ضحاياها: الحقيقة. ثم في الأسابيع التالية توالى سقوط الضحايا، فقُتل الطيبون الصادقون، ثم الفقراء، ثم المفاهيم، ثم صوت العقل، ثم الهوية، ثم دلالات اللغة، ثم سُبل العيش، ثم الأمل، ثم من تبقى من الفقراء، والآن بدأت الحلقة الأخيرة التي كتبها سيناريست ضعيف المخيلة، لم يجد حلاً لإغلاق حكايته سوى بقتل جميع الشخصيات.

لا ينفع الموتى من الناس والأفكار سبباً. لا بد أنه الإيمان إذاً؟ لا أملك حجة للإيمان سوى هذا الحوار من مسرحية الفرسان لأرسطوفانس (المسرحي الإغريقي من القرن الثالث ق.م)، حيث يقول ديموستينيس للخادم نيكياس:

ـ يا للحماقة! هل أنت تؤمن حقا بوجودها؟ على ماذا تستند لتصدق وجود الآلهة؟

ــ انظر إلى حياتي، من المؤكد أن الآلهة تكرهني، ألا يكفي هذا دليلاً على وجودها؟

لأفكّر بامتلاك الأشياء؟ كل الأشياء التي أريدها من هذا العالم لم يسبق لبندقية أن حققت واحداً منها، وأنا لا أرى حولي سوى البنادق.

حياة آمنة هانئة بسيطة؟ كانت ثيمة ماركيز الوحدة وثيمة سيوران الانتحار وثيمة دوستويفسكي اليأس وثيمة شابلن الحزن. نحن ثيمتنا القلق. وأينما رحلنا سنحمل قلقنا معنا، الأرجح أن الأمر جاء مع الجيولوجيا؟ لا أدري لكننا نعيش منذ الأزل فوق خط الانهدام الإفريقي، وننتظر الزلزال الكبير الذي سيفنينا ويغرق ما تبقى منّ أرضنا في البحر. هكذا يقول لنا العلماء، لكنّهم لم يخبرونا حتى الآن أين تتوضّع خطوط الانهدام الأخرى، خط الانهدام الإنساني، الثقافي، الإيماني، النفسي، هل تقع فوقه أم تحته، هل هي سابقة له أو لاحقة به؟ لا نعرف، لكن كل ما تحتنا يهتز، ليس الآن حين نشبت الحرب الأخيرة، بل منذ زمن أطول بكثير، ربما منذ ولدت هذه البلاد. وهذه الهزة، هذه الحرب مجرد حفل تخرّج.

الشيء الوحيد المتاح لي من بين كل الأشياء في العالم التي تصلح أسباباً، هو سندُ رأسي إلى كتف قادر على فهمي، إلى كتف صديق مناسب، مناسب للحياة التي نعيشها، مناسب للهموم التي سأبوح بها، ويمكنني أن أوجّه رسالة لهذا الشخص المثالي وأقول له: "كم احتاج إليك الآن يا يهوذا. كم أحتاج يا صديقي أن أبكي على كتفك، وأشكو لك ما فعله بي كل أولئك الخونة الذين أيقظتهم جرأتك، وجعلتهم ينهشون لحمي بعد أن صرت وحيداً بدونك، من سيفهمني سواك؟ من سيشعر بألسنة الضباع وهي تلعق دمي الذي أسالته أنيابك؟ من سيربّت على رأسي يا ضبعي الحبيب؟"

قد لا تنفع هذه الرسالة باقناع يهوذا باستقبالي، ويبقى لي أن أستذكر عبارة الشاعرة الأميركية إدنا سانت فنسنت ميليه:"يجب أن تستمر الحياة، لكني نسيت السبب"

صدّعت رؤوسكم بكثرة الأسئلة، بقي لدي واحد، واحد فقط: هل يمكن أن تكون المرأة التي حدّثتكم عنها بلاداً؟ هي كذلك.

وأكتب لكم لأطلب منكم أن تساهموا بمنحي بضعة أيام إضافية، بأن تخبروني بأسبابكم. سأجمعها جميعاً، وأعيد قراءتها مراراً، وعندما يصبح لدي كتاب أسباب سأشارك الآخرين قراءته، فلدينا جميعاً قلوباً مهشّمة بالمطارق، لا فرق إن هشمّتها نساءٌ أو رفاقٌ أو بلاد.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search