Skip to main content

الخيار المثالي لشاعر شاب عراقي

Credits مقال: الشاعر علي ذرب March 10 2021

خلال الشهور الثلاث الأخيرة من بقائي في العراق كنتُ أفكر بالانتحار, لا يمكن وصف الالم والاغتراب الذين كنتُ احملهما في نفسي, كانت قدماي في مكان ورأسي في مكان آخر وأسئلة عميقة حول كل شيء أشعر أني الوحيد الذي يمتلكها, كانت أسئلتي عن المدينة التي أعيش فيها والمدن الاخرى في العراق, عن الناس الذين يُؤخذ من عيونهم الأمل ومن صدورهم تؤخذ الأنفاس عنوة, عن الزمن الذي نسير اليه, عن الأيام التي لا تنقضي كأنها مُقيدة بكل أحجار الأرض والأيام التي تمر دون أن نشعر بها, كل شيء بدا مختلفا وغامضا, كانت تدفعني عيوني وقلبي وعظامي وذكرياتي وألمي نحو الموت.

لكن في بلد مثل العراق تبدو فكرة الانتحار مُضحكة, الانتحار نفسه مُضحك لسبب بسيط وهو ما الشيء الذي سيغيره انتحار شاعر في الحياة هناك ؟ هل لموتي قيمة تُشعر الآخرين بالخسارة وتجعلهم ينتبهون الى الكلمات التي تبقى دون مأوى بعد رحيلي ؟ أقول هذا ليس لأن الشاعر أكثر قيمة من الآخرين أو انه مخلوق من الذهب وانما هو كما أراه وأحلم أن يكون مكان في هذا الكون الواسع يجتمع فيه الحب والكلمات والنمل وأجزاء صغيرة من الجحيم, ان تهديد الانسانية الدائم وترهيبها تبقى علاقته وطيدة جدا مع البقاء, ليس الخوف أن أُقتل بقدر ما هو تفكيك لإنسانيتي وأن أصبح شخصا آخر مليء برغبات مثل التخريب والتطرف وما شابه ذلك, شخص لا يُمكنني سماعه في أي حال من الاحوال أو مشاركته في رؤاه وسكونه أيضا وكثيرين ممن ذهبوا في هذا الطريق وهؤلاء لم يُقتلوا بل تحولوا وبقاؤهم لم يعد له قيمة في هذه الحالة لأنني أعتقد أن بقاء الانسان في انسانيته ومما لا شك فيه أن طاقة القتلة في العراق أكبر من طاقة الأبرياء فيه الذين يحلمون بحياة نظيفة لهذا في كل عراقي بريء ذكرى مؤلمة, في كل عراقي صرخة, في كل عراقي جثة, في كل عراقي انتظار لشيء ما, في كل عراقي طائرة ورقية, في كل عراقي ارجوحة فارغة, في كل عراقي نهر صغير, في كل عراقي طائر يأكل صغاره ليبقى وحيدا, في كل عراقي طريق مختصر الى الفردوس أو الجحيم وحوله الحياة تنمو مثل شجرة وتنتهي مثل قطعة ثلج .

لقد مر العراق بتحولات كبيرة سياسية واجتماعية والحروب أثثت لنفسها مكانا كبيرا في نفوسنا ولا يمكن لنا ان نتجاوز عقدة الانكسارات المتتالية التي تقتل الكثير من المحاولات الجادة في تجاوز المشكلات أو حتى الاستعداد لتجاوزها على سبيل الحلم أو أن نكون طموحين بذلك, نزعات متنوعة وكثيرة يعمل عليها الكثيرون نحو التكتل والاصطفاف الى جانب الساعين لفرض صورة التوحش من مبدأ كل شخص ضعيف يتخذ له آخر قوي وهذا التصور قد تجاوز مرحلة التصديق بل هو حرب هائلة مع الحضارة والتاريخ والمستقبل, عراق اليوم نصفين أحدهما يجلد الحياة والآخر على حد السكين دائما.

انني كشاعر لا أتطلع الى أزماتي الشخصية فقط لأن علاقتي مع الواقع ليست فردية, لستُ بمعزل عما يدور حولي كما وأن أزمات الآخرين الشخصية باعتقادي لا تشبه الحيوانات المتوحشة التي يتم وضعها في أقفاص لتمم الفرجة عليها فقط وانما هي في الشوارع والازقة والاسواق هي في كل مكان فمن الطبيعي أن أكون مُحملا بمسؤولية ما تجاههم وأن يكون لي من رؤيتهم للحياة قدرا كبيرا وهذا الاستشعار الجمعي ان صحة هذه التسمية وتلمُّس جراح الآخرين بقصد أو دون قصد نتيجته ألم مضاعف ومعاناة أكبر, بعدما ينتهي اليوم يكون لديّ قصص عديدة قد سمعت’ عنها أو رأيتها تحدث في الشارع وبهذا لا يمكنني فصل نفسي عنها أو تجاهلها حتى, فأنا المرأة التي تطلب من الآخرين مساعدتها في تسديد ايجار الغرفة الهرمة التي تعيش فيها حفاضا على بناتها وأنا الشاب الذي قتلوه في المساء أثناء عودته الى المنزل فقط لأنه كان يطالب بحريته, وأنا الاطفال الذين يبيعون المناديل الورقية في اشارات المرور وأنا عديد من الناس الذين يعانون فعندما تكون أنت كل هؤلاء وكل هذه القصص كيف سيكون شكل الحياة لديك وما هي الطريقة المثالية لمواجهتها ؟ أعتقد أن أي شخص في مثل هذه الحالة سيبقى على قتال دائم مع الجنون .

ربما انني لستُ الشاعر والعراقي الوحيد الذي يمتلك هذا الشعور فمن الممكن أن يكون هناك عدد كبير من هم على شاكلتي ولكن يبقى التفاوت في استقبال هذه المعاناة المتنوعة والمتعددة هو الاداة التي تُميز حجم آلامنا الشخصية ولكننا نسير في الطريق ذاته, مصلوبون نحن وان كنا لا نحمل صليبا على أكتافنا .

ان الشيء الذي لا يمكنني استيعابه هو كيف تمت زراعة القناعة الخاطئة في عقول البعض ممن كنتُ أراهم ومنن كنتُ أسمعهم أحيانا وكيف تمت ابادة رغباتهم في اكتشاف وجه آخر للحياة أو التساؤل حول ما يحدث كأنهم معزولين, حتى انهم يرددون دائما هذه حياتنا ونحن نريدها هكذا ومن يرى غير ذلك يمكنه الخروج من هنا وكأن فرصة العيش للذين يمتلكون وجهة نظر مختلفة هي اكذوبة كبيرة, ان هذا النموذج من العراقيين لم يجد الحلول ولم يجد من يعينه على ادراك الخراب الذي تمكّن من كل مفاصل الحياة, ان ما يفعله القتلة اليوم والسياسة في العراق ليس له حدود بل هو متجدد على الدوام بينما الأبرياء يتطلعون الى أشياء لا يمكنني معرفتها .

في تلك الايام لم يكن كافيا ان أنبهر, أن أبقى على قناعة ان القصيدة هي مكان آمن ألجا اليه عندما يطاردني العالم ان امارس حياتي بشكلها الطبيعي دون معوقات ذاتية واخرى موضوعة في طريقي, ان احب وان احلم حتى, ان أكون مقتنعا أن حصتي من الهواء والحرية كافية لي, أن أكون متوازنا طوال الوقت وأن لا شيء يعنيني من كل هذا, لقد تغلب الاحباط على كل شيء لديّ, الكتابة والخوف والكراهية أيضا, لقد كنتُ ضعيفا ومهانا بشكل مرعب لكنني بقيتُ أعاني ولم أنتحر .

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search