Skip to main content

رسائل إلى عريب

هذه الرسائل هي محاولة لسرد يوميات عن الحياة في قطاع غزة، وهي محاولة أيضاً للشفاء من اليأس، كُتبت في الفترة 2021-2022، وكانت رسائل الى اصدقاء مقمين خارج فلسطين. هذه الرسائل هي شقوق من خلالها يستطيع الشاعر ان يروي للعالم حكاياته.

محمود الشاعر من مواليد مدينة رفح جنوب فلسطين عام 1990. كاتب، عضو اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، والمدير التنفيذيّ لمجلّة 28 ، والمنسّق العامّ لدار خطى للنشر والتوزيع. درس دبلوم المحاسبة في الكلّيّة الجامعيّة للعلوم التطبيقيّة والمهنيّة. صدرت له مجموعة شعريّة مشتركة بعنوان "مساحة بيضاء"، وله نصوص منشورة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة .

Credits محمود الشاعر May 10 2023

رسائل إلى عريب

"لا أعرفٌ شيئاً عن الذي أنا فيه لكنّي لا أتوقف عن الركض"

عزيزتي عريب،
أنه أكتوبر، نهايةُ العام، وأنا كلّما نظرتُ إلى الزمنِ أشعرُ بالتيبس، وأشعرُ أنّي ساكنٌ أمام الوقت؟

يَحملُ المُستقبل دائماً احتمالات ممكنة، في حالاتِ البترِ والتدميرِ والاقصاء، لا يتوقفُ الزمن، يبقى يطوي أياماً وسنين، وتصيرُ لحظةُ البترِ والتدميرِ والإقصاءِ ذكرى، أستعينُ بالأيامِ واللحظاتِ الجيدة على نسيانها. ويبقى سؤال القُدرة مسألة تدعو للتأمل والبحث.

في لحظةٍ ما من عام 2018 قُلت: المجهول مليان فرص من وسط الأزمة والخسارة، المجهول مليان فرص إذا ما استمر الركض لذا قُلت: لا أعرفٌ شيئاً عن الذي أنا فيه لكنّي لا أتوقف عن الركض، وقُلت عندما ملأني المجهول بالفرص: كالموج تأتيني الحياة تُطل مرتفعة ثم إلى لا شيء تصير. وها أنا في أكتوبر 2022 أُعيد تسمية الأشياء، أتحايلُ على اللغة والظروف، ما زلت أحاول تلقي الحياة كما لو أنها بدون حصار، بدون سجن، بدون فساد، بدون أزمات، وأنَّ الغد يحمل مستقبل ممكن. وأنا برغم معرفتي وخبرتي مع الحياة هنا، إلا أنني مرعوب يا عريب من شكل هذه القُدرة غداً مع أطفالي ( ناي ومجد)، بقدر الدهشة والفرح والاحتفال بهذا البناء الفطري للحياة، إلا أنني خائف جداً من المستقبل، خائف من حالة توقع الدمار المستمرة في تركيبات الماضي والحاضر والمستقبل، إنها مشاعر مُرهقة ومُتعبة للغاية.

محبتي
محمود


"أعيشُ حاضراً لم أختره"

عزيزتي عريب،
برأيك، كم قاع يختبر الإنسان حتى يُسمي القاع الأخير قاعاً أخيراً ..؟

معك وقت نحكي ..؟ الجمعة بزبط ..؟

انا في غزة، انظرُ إلى تربتي ولا يشغلني أي شيء، ذلك لأنّي أعيشُ حاضراً لم أختره، والذي اخترته صار حُلماً بعيد المنال

محبتي
محمود


"كأنني زمن"

عزيزتي عريب،
يوماً بعد آخر، ما زلتُ أنتظر أن تكتبي لي، كيفك ..؟، كيفَ يبدو ألم اللحظة الأولى للأزمة، الفقد، الخسارة، الرحيل ..؟

الكثيرُ مرّ، تُلّهمني لحظات التضامن، إنها قوّة لا يُحدثها شيءٌ غير الأزمة، وهذا الرهان المستمر على الأزمة وهذا البتر الممتد من قتلٍ وتهجير وحصار وسلب المكان والزمان للفلسطيني أينما وُجِد، يُفقد جسدي الشعور بالاضطهاد، لم يعد مؤلماً ما يحدث، أحياناً أبكي، وأحياناً كثيرة أُصاب ببلادة غير مُفسرة، أُشفق على أصدقائي الذين يتابعون الأخبار وتعريص هذا العالم. وهكذا أمضي يوماً بعد يوم مُحاولاً التقاط لحظات الحياة. كإنو امبارح خلصنا رواية إيمان مرسال، بتصدقي انو بكرا نهاية مايو؟ يواجهني سؤال المستقبل ومن كثرة تفكيري في الأمر أصبحت الأسئلة التي يولدها المسار تقريباً أسئلة تتجاوز الزمان والمكان، حاولتُ البحث في الماضي، ووجدتنا طوال الوقت ننتقل من احتلالٍ لآخر، كأننا أزمان كثيرة، تمرُّ عليَّ الكثير من الأحداث كأنني زمن، وأروي عُمري كأنه أزمانٌ كثيرة، يُسرع الزمان بي يا عُريب، لا أشعر بالأمان، أشعرُ بالقوة، بالإرادة، بالصبر، بالأمل وأشعرُ بالتضامن كأني جسدٌ أمام النار.

الرسالة القادمة من برلين، نلتقي قريباً.

محبتي واشتياقي
محمود


شريك جديد لتخيل المستقبل

عزيزتي عريب،
لن ينقطعَ عني الاتصال مع ماهر (والدي) مجدداً، لديَّ الآنَ تاريخٌ شفويّ يكفيني ويَمُدّني بالحبِ إلى الأبد، كلُّ دهشةٍ وكلُّ التفاصيل التي أدركت أنّي موجود فيها، أستطيعُ الآنَ أن أدركَ معنى رغبة أبي وأمي في انجابِ طفل آخر، وكُنت أنا في الرابع والعشرين من أبريل عام 1990، وكُنت أنا شريكه الجديد لتخيل المستقبل، أيُّ مستقبلٍ تمناهُ لي في الأشهر الأولى؟ لقد تخيلني أكبُر وأتحدثُ معه، لقد كان يبني بيتاً "مثلي تماماً" يعيشُ بالإيجار ويعملُ سائق شحن "نقل" من غزة إلى الداخل المحتل، يغادرُ صباحَ كل سبت ويعود مساء الخميس. وفجأة تأتي أخبارٌ تفيدُ أنه استشهد، وقيل عنه شهيد في التلاتين من عُمره، متزوج وأب لطفلين، هكذا توقف كل شيء.

منذ الحادي عشر من أبريل (ستة أشهر على قدوم ناي ومجد) وأنا أتأمل اتصالي مع أبنائي، وأقول هل كانت لديه رؤى لهذه الحياة معنا كالتي لديّ الآن للمستقبل مع أبنائي ؟.

ها أنا الآن أُكمل احتمالات رؤيتِهِ لكلِّ شيءٍ بعد الحادي عشر من أبريل، أؤمن يا عريب أنّه سمع مني كلَّ معجمي اللغوي، وهذا إيمان بقدر الحب الذي منحني إيّاه وأنا أكبر بين يديه يوماً بعد يوم حتى استشهد وهو عائد لنا، في الطريق من بحيرة طبريا إلى غزة.

لم تكن هذه التجربة عادية، أشعرُ بحزنٍ شديد وأنا أروي قدرتي على التقاط التفاصيل في التاريخِ الشفويّ للفترة التي عاشها أبي معي، وكُنت أشخاص آخرين غيري، وهذا خلق مسار مختلف وغريب ومختلط، لكن أنا حقيقةً بحالةِ احتفالٍ وأنا أدركُ كلَّ هذه التفاصيل. وكانت السعادة بكلِّ تفاعل من الأطفال مُضاعفة، الأولى هي سعادتي الطبيعيّة كأبٍ بأنَّ الأبناء يكبرون، والثانية هي سعادتي بأنَّ والدي رآه كذلك، وهذا الانتباه لحضوره، جعلني محمولاً بكثير من الأسئلة يا عريب، وأفكر بأحلام وطموحات غيّبها جندي اسرائيلي على حدود قطاع غزة يوم الثلاثاء الموافق 23 أكتوبر عام 1990 لكنّي أعيشها الآن.

أراكِ قريباً في برلين.

محبتي،
محمود


الباب

عزيزتي عريب،
أنا آسف، انتبهت يوم الأربعاء متأخر إلى رسالتك، والآن سمعت رسالتك، أنا بخير الآن، دائماً أجد طريقي لأكون بخير.

كتبت هذا النص عن الخسارة والرفض والانهيار:_

أسيرُ مع أصدقائي حتى نصل الباب، يُسمح لهم بالمغادرة وأعود أنا بالرفض، وحدي بين أناسٌ كُثر لا أعرفهم.
يُغادر الأصدقاء، أستقبل رسائلهم المليئة بالصور، أراقب دهشتهم بالأشياء، وأبدو أمام الآخرين كأني الشخص الذي يلتقط لهم كل هذه الصور.
يُغادر الأصدقاء، ولا يبقى معي غير الخوف والشك وعدم القدرة على تخيّل المستقبل، وتقفز إلى المجهول مواعيد كانت مُحتملة.
يُغادر أصدقائي، وأبقى مفتوحاً لاحتمالاتٍ كثيرة، مثلهم تماماً أقف بين أشخاصٍ لا أعرفهم، إلا أنني داخل غزة وهم خارجها.

محبتي،
محمود


صامتاً لوقتٍ طويل

عزيزتي عريب،
بالأمس كنتُ أحاولُ السفرَ إلى مصر للمشاركة في الملتقى الذي أشرتُ له في بريدي السابق، أكتب هذه الرسالة من غزة بعد رفض الجانب المصري دخولي الأراضي المصرية بسبب فيزا سارية المفعول لأوروبا، لا أريد أن أتحدث عن أي شيء، أريدُ أن أبقى صامتاً لوقتٍ طويل، وأن أعيد ترتيب الـ 13 يوم التي كان من المفترض أن أقضيها في مصر بأشياء مُعتادة من داخل المكان، للحظة شعرت أنَّ الزمن توقف، وأنَّ أحدهم سلبني القدرة على فعل أي شيء، تماماً كما لو أنه سحب عمودي الفقري وتركني إلى خواء لا تجدي فيه المقاومة، أنا صامت منذ تلك اللحظة، وأتعافى شيئاً فشيئاً من أثر هذه الصدمة>

في كلّ مرة أصطدم بها مع النظام، أستغرب من صوت داخلي يعلو ويسيطر، صوت يرفض البقاء هنا، صوت يردد على الدوام "اهرب"، اخرج ولا تعد، وتحمّل سنوات الهجرة إن كانت سنوات البقاء مرهونة بالرفض والتدمير ومهددة على الدوام بالاختفاء، وهذا الصوت يا عريب يذوب عندما أفكر في جدوى العمل الثقافي وضرورة استمراره داخل المجتمع في فلسطين، وأنَّ كل ألم في الاصطدام مع النظام يذوب أمام متعة رؤية (الجاليري) مساحة تكاد تكون ذاتية التنيظم لمجتمع واسع من الفنانين والكتّاب والمبدعين الشباب من كلا الجنسين.

يبدو المستقبل مساحة مظلمة، ولا أملك أي ضمانات باستمرار فعل البناء الذي ينمو منذ 2020 بجذوره التي تحاول البقاء منذ 2013، وأنا لا أريد شيئاً من الغد سوى أن يعطيني الفرصة الطبيعية لأي انسان في الكوكب للحصول على حياة لا تحمل أي من المشاكل التي أتعامل معها الآن. سأكتب لكِ عن الأمل قريباً، في 11 أبريل القادم يُكمل أبنائي ستة أشهر، مدهش ما ألتقطه من أبنائي، كثير فرحان يا عريب إنو أبوي سمع صوتي وكثير فرحان بكل ممارسة مع الأطفال، هاد فرح مطلق، لا يغلب عليه أي حزن من كل ما ورد أعلاه.
أتمنى أن تكوني بخير وأن أسمع منكِ قريباً.

محمود


يتوقفُ سيلُ الكلام وأنا أحاول شرح المزيد

عزيزتي عريب،
كيفك؟ غريب كيف يمرُّ الوقتُ بسرعة، إنها رسالةٌ بعد خمسة أسابيع، وأشعرُ أنّي لم أترك أي مشهد مشترك كلّ هذه المدة، ما زلت أتأمل في هجرتي داخل المكان، أعود وحيداً وصامتاً و فاقد القدرة على المشي تجاه الآخرين، وأتأمل في هذه الوحدة وهذا الصمت طريقتي في تعويض الخسارات (لا أقول أنني خسرت أصدقائي، لكن خسرت تواجدهم الفيزيائي)، وأتخيّل يا عريب أنني منذ البداية لا أفعل شيئاً سوى تعويض خساراتي التي لم أقرر اكتسابها، يتوقفُ سيلُ الكلام وأنا أحاول شرح المزيد، لكن


عزيزتي عريب،
تتوسع المساحات شيئاً فشيئاً، وتتداخل التجارب فقط بمجرد مشاركتها، أُحاول تعلم الحياة من جديد مع الأولاد، أحمل أحدهم مثلاً لأنه/ـها يبكي، ثم أراه يقودني إلى ما يُريد، وأنا بانفتاح تام أتقبل أنني أداته للوصول، عندما يصل، يُدهشني انغماسه وغرقه، وعندما يرفع رأسه ويُدركني تأتي ابتسامته مثل أجنحة الفراشات، مثل ماء بارد لجسد مصلوب تحت الشمس,

لم يحدث أي جديد بخصوص السفر، خلال هذا العام حاولت الخروج في 16 و 20 مارس ثم عدت للمحاولة في 3 يوليو، وعدت للمحاولة في 25 أغسطس وفي 04 سبتمبر، في الخمس مرات كنت أقضي من 10 إلى 13 ساعة على الحدود، من صالة إلى أُخرى، يلتهم الوقت قُرابة 900 شخص يومياً عدا الجمعة والسبت، عند الساعة التاسعة أو العاشرة، يُعلن عن اسمي ضمن قائمة المُرجعين إلى غزة، أعود مهزوماً، مبصراً مرة بعد مرة لفِعل السفر، اتفاقات وأحضان ووداعات واجراءات تُعاد مرة بعد مرة، وشكلي صار معروفاً لجميع الأشخاص العاملين في المعبر وحوله، ليس الضُباط في كلا الاتجاهين وحسب، بل بائع القهوة ورجل الصرافة (تبديل العملة) وحاملي الحقائب وعاملي التنظيف، حتى الأطفال الذين يبيعون المياه المثلجة حول السيارات المغادرة في كلا الاتجاهين.

كنت أستطيع أن أستعيد أيامي بسهولة في المرات الأولى، لكن مرة بعد أُخرى صرت أكره فعل الاستعادة وتمارينه، وصرت أخجل من إلغاء ما كُنّا قد اتفقنا عليه أنا والآخر، وهذا بجانب التكلفة الاقتصادية المرتفعة يترتب عليه فقدان المكان، الحيّز، وصرتُ لا أعرف نفسي هُنا أو هُناك، وصرتُ مجهولاً أمام كل شيء خارج البيت.

من داخل البيت، يَكبرُ الأطفال، يتعلمون الحكي، الكلام، وأنا مثل مُسكتشف للغة، أراقبهم كيف يُدركون اللغة ويُخزنوها، هذا بالإضافة إلى قُدرة الجسد على الحركة، يوماً بعد يوم يٌضاف شيء جديد مدهش ومُفرح ومليء بالحياة.

محبتي، وأمنيات كبيرة بلقاء قريب،
محمود

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search