Skip to main content

فتحي غبن: ثنائيات حتمية

هاشم حلس كاتب فلسطيني من مواليد غزة

Credits هاشم حلس May 26 2023

تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة (جرامشي)

أحد القضايا المتداولة في الماضي وحاضرًا في الفكر الراديكالي الذي يحاول تغيير الواقع هي قضية علاقة الفكر والعمل بثيمات البؤس والتشاؤم، والأمل والتفاؤل. كل تفكير ثوري عليه أن يدرك من البداية تعقيدات الواقع وصعوبة اختراقه أو تغييره، عليه أن يدرك أن المرء وحيدًا لا يقدر على مواجهة مؤسسات مدججة ببنيات لا يقدر على تفكيكها أو مواجهتها دون أن ينتمي إلى كل يحتويه، لكن لا يتعلق الأمر فقط في المكان الذي يحدده المرء لنفسه في مجتمع أو جماعة، بل في الطاقة التي يحملها فيما يواجهه، أهي طاقة تدرك تعقيد الواقع وصعوبة تغييره أم أنها تعتقد بسذاجة أن الأمل سيحقق أمنياته على أقرب مفترق طريق؟

الإنسان كان وحيدًا أو مع جماعة هو الموضوع الأساسي الذي يتناوله الفنان فتحي غبن، الإنسان ككتلة تنتج حياة ومعنى، ككتلة تفلح الأرض، وتنتج المعنى، وتقاوم وتربي جيلًا، الإنسان بعاديتيه اليومية وطبائعه المتكررة ولكن مع التركيز ووضع الصورة عليه. تعبر لوحات الفنان فتحي غبن عن الفلسطيني كما كان، عن الفلسطيني بحالته الطبيعية قبل كل شيئ، قبل كل الارتباطات السياسية، قبل المدينة أو بجانبها، الفلسطيني الفلاح الذي يعرف جيدًا معنى المقاومة، فرديًا وجماعيًا، يحب أرضه ويعرّف نفسه بها، حزين في بعض الأحيان، شجاعًا في أخرى، الفلسطيني كساعي نحو الحياة، لكن الحياة والطبيعة بمعناهما الهايدغري المنفصل عن عالم التكنولوجيا، هناك براءة ما يسعى الإنسان تحقيقها من خلال ارتباطه بالأرض، من خلال انفصاله المبرر أو غير المبرر عن العالم الحديث بكل أشكاله.

قد تكون فكرة الانفصال عن الحداثة والارتباط بالعالم كتجربة مباشرة دون وسيط mediation تشكل حقيقة حياة الفنان فتحي غبن، فقد مارس الفن دون وسيط، تعلم الفن بالفطرة، كما تفلسف سقراط وعزف بيتهوفن، دون الحاجة للالتحاق في مدرسة فنية في باريس أو أوروبا، مارس الفن ويده على اللوحة، كتجربة مباشرة محسوسة وحقيقية، بلا معلمين ولا مدارس فنية حديثة أو تقليدية. وهكذا هي تجربة الحياة الفلسطينية مع فتحي غبن، مباشرة، العين أمام العين وتواجهها، الحقيقية متمثلة أمامنا وكل ما نحتاج لإدراكها هو أن نحدق كفاية في مرآة الواقع.

تبدو اللوحات قادمة من عالم آخر، عالم كان الفلسطيني فيه على طبيعته الأصلية، قبل الاحتلال، قبل الانتداب، قبل الحاجة لطرح أسئلة الذات والآخر، الذات كانت حاضرة وجاهزة، ولكن هناك شيء خلف هذا الظاهر الحقيقي، وهي السياق الذي تحمله هذه اللوحات، السياق الذي يعيشه الفنان ونعيشه سويًا، فن فتحي غبن يفتح نافذة على العالم، يفتح قابلية لفهمه من خلال العالم لا من خلال ذاته، وذلك لإرتباطه بالعالم وتجذره به. وذلك يعني أن خلف كل لوحة هناك ماضي، ماضي يمكن أن يضيف للوحة معنى جديدًا، معنى لا ينفصل عنها، ولكنه يختبئ خلفها. لذلك في كل عدة لوحات تجد الملامح واضحة، حركات الجسد تمثل شيئًا سياقيًا، شيئًا يشير إلى الماضي القريب أو ما يمكن أن نعتبره الحديقة الخلفية للوحات فتحي غبن

عالم فتحي غبن ليس أحاديًا، دومًا عن الفلسطيني، ولكنه عن الفلسطيني بتعدديته وتنوعه، في اللوحة أدناه تجد الفلاحون يقطفون البرتقال وكأنهم في حفلة، الناس في حلقة حول بعضهم البعض، الرجال الكبار على الشجر، النساء تحمل البرتقال، الأجساد تتراقص في طقس احتفالي فلسطيني بحت.

1

تتميز لوحات فتحي غبن أنها تحمل شخصيات متعددة، في كل لوحة هناك شخصية أو عدة شخصيات تتمركز في زاوية ما من اللوحة، الملامح دومًا واضحة، وهادئة، ليست غاضبة ولا حتى بائسة. هذه الملامح الفلسطينية اليومية المتكررة تبرز شيئًا معينًا يعرفه الفلسطينيون جيدًا، وهو حتمية الحياة رغم كل شيء. على صعيد شخصي، وجدت التعبيرات الباهتة صورة بديهية لكل فلسطيني يعرف كيف يستمر في حياته رغم كل الصدمات النفسية التي عاناها في حياته. حتمية الحياة تعني أن كل شيء يمكن أن يضع على الهامش حتى ننتهي من العمل، والعمل هنا هو الفلاحة. هذه خبرة يومية يفهمها كل فلسطيني ذهب صباحًا إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل بعد اقتحام منزله أو تهديده أو حتى قصفه. ثنائية الأمل واليأس هنا تفشل، لأن اليأس خيارًا لا يقترحه الواقع، والأمل يبدو رفاهية لا يسمح بها الواقع. هنا فقط يحقق الفلسطيني الجدلية الغرامشية التي تشير إلى تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، فالواقع مفتوح على كل الاحتمالات السيئة التي عانيناها من قبل، ولكن هذا لا يؤثر على الإرادة التي لا زالت تحرث وتحاول أن تفتح أفاقًا جديدة.

2

الإرادة تشير كذلك إلى الثورة، لأن الثورة تجاوز يأس الإرادة بتعبير جرامشي، يأس الإرادة الذي يمنعك من تغيير الواقع أو السعي إلى تغييره، أما الجانب الثاني الذي تعرضه اللوحات، وهو تشاؤم العقل. تشاؤم العقل ظاهر في ملامح أغلب شخصيات فتحي غبن، تشاؤم يرتبط جذريًا في الواقع الذي يعيشه الفلسطيني كل يوم. يعني هذا الاقتباس أو الشعار بالنسبة لجرامشي قابلية الإنسان لأن يصارع نظم ومؤسسات أكثر تنظيمًا وصلابة منه، وأنه يحاول أن يتجاوز الاحتمالات "الواقعية" وهي واقعية لأسباب تبدو معقولة، لكن الإرادة تسعى، وبذات الوقت تدرك سوء الاحتمالات. شيء في لوحات فتحي غبن يدور في ذات الثنائية هذه، الملامح تشير إلى اليأس أو التشاؤم، الإرادة أو الفعل يمثل التفاؤل والأمل. ثنائية لا يدور حولها الفلسطينيين وحدهم فقط، بل كل من يحاول أن يغير الواقع ويحلم بواقع مختلف. يظهر دومًا حضور الجماعة في كل نضال، وهو ما يبدو بديهيا في الواقع، لأنه لا تغيير ينطلق دون جماعة واحدة تحاول أن تتحدى الاحتمالات، على النقيض كل شخصية تمشي وحيدًا أو تعمل في عزلة تحمل همًا ما، همًا ينفتح على الواقع السابق للوحة.

هنا لا يمكن غض النظر كذلك عن أساسية حضور المرأة في اللوحات، المرأة كالعادة تقوم في الأدوار المتعددة، تخبز الخبز لأطفالها وترعاهم في ذات الوقت، في لوحات أخرى تشارك في النضال في وسط الاحتجاجات والتجمعات. حضور المرأة في لوحات فتحي حقيقي أكثر من حضور الرجل، بمعنى أنه أكثر وضوحًا من حيث الملامح والدور، المرأة تقوم في أدوار معينة متعددة، غير ملتزمة بالأدوار التقليدية فقط، بل تزيد عنها بأدوار يفترض أن تكون أدوار الرجال في مجتمع محافظ. هناك هم نسوي في لوحات فتحي غبن، وهذا الهم يأخذ منحيين، الهم النسوي الذي يضع سؤال المرأة، وهو موجود في معظم اللوحات. الهم الثاني هو الهم الذاتي الخاص في شخصية أنثوية في اللوحة، وجهها المكلوم من حدث ما في الماضي.

لا تزال لوحات فتحي غبن مفتوحة على الواقع والواقع مفتوح عليها، يمكن أن تتمدد في الفراغ الحالي، فراغ يعانيه الشعب الفلسطيني من حيث فقدان المعنى وانعدام الخيارات. العودة إلى الفلسطيني القديم بحالته "الطبيعية" غير ممكن هنا، الضرر قد وقع، السياسة قد حلت، والواقع قد تغير، يمكن على الفلسطيني أو على لوحات فتحي غبن كذلك أن تتجاوز الانحصار في التقليدي والقديم، وليس ذلك من خلال تقبل الواقع والرضوخ له، بل من خلال الانطلاق من الواقع لتغييره، ويمكن قلبه حتى رأسًا على عقب.

3

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search