Skip to main content

الجسر بين الشعر وأدب الأطفال

فاتنة الجمل، من مواليد مدينة رام الله، كاتبة ومهتمة بالشأن الثقافي، تعمل في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، تكتب الشعر والمقال وتنشر في عدد من الصحف العربية.

Credits فاتنة الجمل May 26 2023

حين قرر الحالمون الأوائل، آدم وحواء، أن يكتشفوا عوالم ما بعد الجنة، حلت على البشرية لعنته، الشغف. من يومها ونحن نسعى، نعمل، نقع في الحب، ونخرج منه، نصنع فناً، نتصارع، نبكي، نضحك حتى آخر خلية في قلوبنا، ونعيش تجلياته كاملة، فينا. يبرع الحالمون في تقشير رمان الكون، هذا الذي يختلف بالضرورة، عن مذاق اللب وملمسه ورائحته. ويسبق هؤلاء بقيتنا في غذ الخطى نحو المجهول، طمعاً في متعة إدراكه الأولى.

يزخر التاريخ القديم والحديث بأمثلة على كل أنواع الحالمين، فقد كان الأندلسي، عباس بن فرناس، أول من حلم بالطيران. وحلم حفيد صناع الباستا، جاليليو، بكوكب بيضاوي ونزع عنه تاج المركزية. وكتب امرىء القيس معلقة تضم تسعين بيتا يناجي فيها حبيبته. ولا يخفى على أحد أن هؤلاء الحالمين وغيرهم، فقدوا حياتهم، في الطريق نحو رمانها، أحلامهم. ورغم ذلك، ومع مرور مئات السنين، تناقلت الأجيال لهب الحلم هذا الذي يولد الإبداع بأيدي الخيال. غير أن سوء الطالع الملازم لفصيلة من الحالمين المبدعين، كثيرا ما يضعهم على الخط الرفيع الفاصل بين الأمل واليأس، هؤلاء هم خلّاقو الفنّ.

الفنّ، جنين ينمو في جوف صانعه، يجبره على تناول المكملات الغذائية، وممارسة الرياضة، ليتمكن كيانه الهش من توفير البيئة الملائمة للوحش الضاري الذي يكبر فيه. الشغف، هذا الذي يجره من ذيله الأمل أو اليأس، هو حامض الفوليك اللازم لاكتمال الفنّ. يمتص هذا الجنين العاطفة عن آخرها، حتى تجف منابعها. عندها، يبدأ حملة الفنّ سعيهم المحموم نحو طرائد جديدة. فتراهم، يتقافزون بين القلوب الكسيرة، فوق النجاحات والفشل، هذه هي رياضتهم الحياتيه، وبها يقوون عضلتها، الرغبة في خلق الفنون.

والفنّ أذرعهُ طويلة، كثيرة، غير أن واحدة منها بالذات "الشعر"، تنسجُ المعنى والإيقاع بخيطان التجربة، فتضرب بلا هوادة قلب القارىء وتزلزل عالمه، معيدة تعريف منظومة عاطفته كلها، وتمنحه عصىً يتلمس بطرفها طريقه إلى بشريته، تلك التي ربما أضاعها في دهاليز الحياة. وحين تأوي إلى فراشك ليلاً، تلاحقك الأبيات التي قرأتها، وينزف خيالك قصائد لم تكتمل. وفي الصباح، تصحو لذات الغرفة، لكن بمنظور جديد. بهذا، فحين تعترضك قصيدة، تمتلىء كقارىء تعيس الطالع، دون أن تدري، بالأمل بواقع جديد.

إذاً ما الذي يمنح قصيدة ما، كل هذه القوة؟ ما الذي يجعلها لصيقة بالقلب والعقل؟ كيف تستطيع قصيدة واحدة أن تقوم بإعادة خلق الأمل وسحبه بيدين قويتين من جوف اليأس؟

يقول كارلوس زافون في رائعته "طل الريح": "كل شاعر تسكنه روح مجرم"، فيما يدعي ووردزورث أن: "الطفل أبو الرجل." فمن هو الشاعر إذا؟ هل تسكنه روح إجرامية أم بريئة؟ هل هو طفلٌ أم راشد؟ هل هو عاصٍ أم قديس؟ من أين يتدفق الشعر؟ من حياة لامعة رشيقة أم من تجربة ثقيلة متشرذمة؟

من الممكن القول أن تجربة كتابة الشعر هي مزيج من ذلك كله، فالشاعر مسكون بشخصيات عديدة لها أمزجة مختلفة، ولكل منها وجهة نظر تريد أن تثبت صحتها. وبهذا فإن ميلاد القصيدة، هو إعلان صريح عن انتصار واحدة منها على الأخريات.

لكن كيف يمكن للشاعر أن يكتب قصص أطفالٍ مذهلة؟ أليس الشعر كلاماً غارقاً في التجريد، ثقيلاُ كمرساة السفينة؟ كيف لمن يكتب الشعر إذاً أن يكتب نصوصاً تحاكي عالم الطفل الواضح الملموس الطافح نوراً وفرح؟

في أعماله، يثبت زكريا محمد، مرةً تلو الأخرى، أن كتابة الشعر ليست مختلفة تماماً عن كتابة أدب الأطفال.

وُلد الأديب زكريا محمد في مدينة نابلس في فلسطين في العام 1950، وغذى اهتمامه بالفن عموما، والأدب على وجه الخصوص، على مدار حياته. حيث درس الأدب العربي في جامعة بغداد وعمل سنوات عدة كنائب تحرير مجلة الكرمل الثقافية، كما عمل لصالح وزارة الثقافة الفلسطينية بعد عودته إلى فلسطين من المنفى، في العام 1994.

لزكريا محمد عدد كبير من المؤلفات في حقول متنوعة، وتركز هذه الورقة على أعماله كشاعر وككاتب لقصص الأطفال. في كتبه "أول زهرة في الأرض" و "شعشبونة" و "نمولة" و "أميرة" وهي كتب موجهة للأطفال، صادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في السنوات 2008 و 2011 و 2012 و 2013 على التوالي، يتناول زكريا محمد قضايا من قلب عالم الطفولة مثل التنمر والوحدة والصداقة والأمومة/الأبوة، بمنتهى الصدق وهو ما يجذب الأطفال لقراءة كتبه، فالأصالة في طرح ثيمات كهذه محاكاة مباشرة لقدرة الأطفال العالية على تأمل العالم من حولهم بفطرة بديهية، لا تشوبها السواتر التي يسدلها عالم الكبار في مسارات الحياة اللاحقة.

في كتابه "أميرة" مثلا، يصف زكريا محمد أباً لا يعبر صراحة عن حبه لطفلته، حتى أنها بدأت تعتقد أنه لا يحبها، ولذا تقرر أن تترك البيت. وفي يوم من الأيام، تزور قلب والدها، لتكتشف فيه شجرة كرز مذهلة، عليها ملاحظة مكتوب فيها: "كل هذا من أجلكِ يا أميرتي."[1] تطرح القصة فكرة وجود أكثر من طريقة للتعبير عن الحب وإظهاره بين الآباء الذكور وأطفالهم، مسلطة بذلك الضوء على إشكالية في الاتصال والتواصل طالما شهدتها الأسر عبر السنين. يعتبر هذا الكتاب، متفرداً في سياق أدب الأطفال الفلسطيني، حيث أنه يطرح إشكالية كهذه بمنتهى الشجاعة ولكن بما يترك طريقاً محتملاً للأمل بمعالجتها، الأمل بعلاقة صحية إيجابية بين الأب وطفلته، الأمل بأن يعثرا على طريق لفهم بعضهما والتواصل بينهما، طريقٌ ربما تكون مختلفة تماماً عن الطرق التي سيحفرها آباء وأطفال آخرون.

تشكل العودة إلى الطبيعة الأم ميزة أخرى تطغى على كتابات زكريا محمد للأطفال. في كتابه: "أول زهرة في الأرض"، يوظف الكاتب الطبيعة لوصف الأمومة البشرية. فالأمومة هنا تشبه البذرة، نيئة، تزرع في الأرض، وكعادة البذور، فإنها تستغرق وقتاً لتنمو. كل مرة تحدث فيها الأمومة، تبدو كما لو كانت أول مرة، وحين تزهر أخيراً، تنشر الدفء على كل ما حولها ومن حولها، تماماً كالشمس.

"وحين تفتحت الزهرة تماما، و

صارت مستديرة مثل الشمس

تردد في الوديان والسهول صوت حلو وناعم: ماما ... ماما ... ماما"[2]

في هذا الكتاب، يحافظ زكريا محمد على سمتي الصدق والشجاعة في تناول الفكرة ومعالجتها، حيث يقدم "الأمومة" تلك الحالة التي طالما تعاملت معها المجتمعات على أنها حدث روتيني، من وجهة نظر مغايرة تماماً. ففي الكتاب، لا تحدث الأمومة بشكل تلقائي، وإنما تتطلب وقتاً وصبراً وجهداً كبيراً لتنمو، تماماً كأي نبتة. ومن الممكن أن يحدث ارتباك في حالة "الأمومة"، مما يتسبب بالأسى، كما من الممكن استعادتها كاملة خلال مسار التجربة، ما يساعد على استرداد عافية السعادة، فعن الطفلة في بداية القصة:

"كررتها عشر مرات: ماما ... ماما
لكن فجأة، ومن دون أن تدري. سقطت الكلمة من فمها على الأرض
سقطت وتدحرجت كما تتدحرج قطعة نقود
واختفت."
وفي نهايتها:
"عرف الجميع أن الزهرة الحمراء هي الكلمة التي سقطت من فم الطفلة
لم تضع الكلمة التي أحبتها: ماما
بل تحولت إلى زهرة حمراء مثل الشمس."[3]

للصدق والشجاعة عدة تجليات، تحتمل الخير والشر، والنقاء والتجربة، الفرح والسعادة وهي بذلك تتماهى مع الطبيعة الأم والكون، الذي يضم هذه التناقضات بما يضمن التوازن، ووجود أحدهما لا يتحقق إلا بوجود قرينه المضاد. وهي سمات واضحة في كتابات زكريا محمد شعراً وقصص أطفال، وهذا ما يجعلها قادرة على الوصول لقلب القارىء وروحه.

في ديوانه "علندى"، يخاطب زكريا محمد، الشاعر، الشجر والصخور والأزهار والكواكب، حتى أنه يخاطب الله. يخوض الشاعر جولات تأملية يراوح فيها بين ذاته والعالم من حوله. يتغذى شغفه على الجبال والدلافين والكلاب والعشب ويشحذ بصيرته لترى كل شيء، كبيراً وصغيراً. يولي الشاعر هنا اهتماماً كبيراً لما تقوله له الأشجار، خاصة أشجار الزيتون والنخيل، وهي من أمهات الأشجار في فلسطين. وحين يصيبه الملل من كوكب الأرض، لا يتردد الشاعر في الترحال لكواكب أخرى، ويوظف أساطير القبائل التي عاشت هنا قبل آلآف السنين، لفهمها واكتشافها، وهو أمرٌ ليس غريبا على زكريا محمد، الذي حفر عميقاً في تاريخ الشعوب، وله عدة مؤلفات في هذا الحقل.

وعلى العكس من كثير من شعراء المدرسة الرومنسية، الممتلئين بالسلام والحكمة، كما لو كانت إجابات الأسئلة الكونية الكبرى مكتوبة في باطن أياديهم، لا يبدو زكريا محمد محموماً بالحصول على إجابات، فهو يشكك في كل شيء، ويلكز خيال القارىء ويتحداه للتفكّر وطرح الأسئلة كلها، خصوصاً تلك التي تعيش في جوف خوفه. يوظف زكريا محمد عناصر الطبيعة في كتابة شعره، ويتفاعل معها بحيوية كبيرة، ليصقل فلسفته الكونية حول البشر والوجود والخير والشر والحب والكره والخسارة والخلود والتجاهل والحنين والحياة والموت. قصائده بيت للقرائن المفاهيمية المتصارعة، ما يؤكد مجدداً أنه من غير الممكن أن يختمر الإحساس وتكتمل التجربة، دون نقيضها، ولذا، يمكن القول أنه لولا اليأس، لما عرفنا شكله، الأمل. يقول زكريا محمد في ديوانه:

"سقطت زهرة، فتبعتها أختها.
من عشرين يوما وأنا أغني هذا المطلع، ولا أخرج منه.
خلوني هنا، يوما آخر كي أعيد بناء حياتي.
الأسى يتتابع، وشغلتي أن أكسر الأغصان، وأن أضرم بها نار الأسى.
دعوني أقلع البقلة من جذورها كي لا يتجدد أساها.
الليل يذبح في غرفتي
والليل يُبعثُ على شفتي."[4]


[1] محمد، زكريا (2013). أميرة (لوحات، الخالدي، أحمد). مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، فلسطين.

[2] محمد، زكريا (2008). أول زهرة في الأرض (لوحات، الخالدي، أحمد). مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، فلسطين.

[3] نفس المصدر

[4] محمد، زكريا. (2016). علندى. الناشر، فلسطين.

Like what you read?

Take action for freedom of expression and donate to PEN/Opp. Our work depends upon funding and donors. Every contribution, big or small, is valuable for us.

Donate on Patreon
More ways to get involved

Search